خيميائي في معمله.. لوحة من القرن 17
تقول الأسطورة بوجود مادة سحرية اسمها «حجر الفلاسفة» لها القدرة على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. وسيطر هذا الحلم على مخيلة الناس لآلاف السنين، فبذل الباحثون عن الثراء والمشعوذون على مرّ العصور أقصى جهودهم لتحقيقه. إلَّا أن مساعيهم كانت عقيمة، لأنها لم تسلك المنهج العلمي، ونتج عن ذلك علم قديم عُرف بـ «علم الصنعة»، كان من أبرز أعلامه جابر بن حيّان الذي اشتغل على ممارسة «الخيمياء» الأولى التي تطور منها علم الكيمياء المعاصر. لكن مع بزوغ العصر النووي في القرن العشرين، ومع التطور الذي تحرزه العلوم على المستوى متناهي الصغر (تقنية النانو)، فلربما بتنا أقرب إلى تحقيق ذلك الحلم الأسطوري!بروتونات ونيوترونات
يستطيع علماء الفيزياء النووية اليوم تحقيق حلم جابر بن حيّان وتحويل الرصاص إلى ذهب، ليس من ناحية نظرية فقط، بل من الناحية العملية..
لنتذكر أساسيات الكيمياء التي تعلمناها في المدرسة، القائلة إن أي عنصر كيميائي يتميَّز بعدد البروتونات موجبة الشحنة الموجودة في نواة الذرة، ويطلق عليه اسم (العدد الذري)، وهذا هو الفرق الجوهري الذي يميِّز العناصر عن بعضها، فلا يمكن لعنصرين أن يملكا نفس العدد الذري. لكن على نطاق العنصر نفسه فيمكن أن يتباين عدد (النيترونات) متوازنة الشحنة، وهذا ما يسمى بنظير العنصر. ومن الأمثلة على ذلك الكربون المألوف 12 والكربون المشع 14 المستعمل في التأريخ، فكلاهما يمتلكان 6 بروتونات و6 إلكترونات سالبة لكنهما يختلفان في عدد النيترونات، حيث يملك الأول 6 والآخر 8.
وتُصنَّف بعض العناصر كـ «مُشعّة»، لأنها تتحوَّل طبيعياً إلى عناصر أخرى، من خلال إطلاق إشعاعات تتكوَّن من ثلاثة أنواع رئيسة من الجسيمات: (ألفا، بيتا، جاما). وكمثال على ذلك يتحلل اليورانيوم (238) إلى الثوريوم (234) بإطلاق جسيمات ألفا، الذي بدوره يتحوَّل إلى البروتاكتينيوم عن طريق إطلاق جسيمات بيتا السالبة، وتستمر هذه العملية وصولاً إلى أحد نظائر الرصاص المستقرة (206). ويتضح من ذلك أن النشاط الإشعاعي يسعى للوصول بالنواة غير المستقرة إلى حالة الاستقرار.
إن الرصاص عنصر كيميائي فلزي ثقيل له عدة نظائر مستقرة، وعدده الذري (82). وعلى هذا الأساس، فإن تغيير عنصر إلى عنصر آخر يتطلب تغييراً في عدد البروتونات الموجودة في نواة الذرة، ولا يمكن للتفاعلات الكيميائية تحقيق ذلك، لأنها تقتصر على تغيير عدد الإلكترونات فقط، كتفاعل الصوديوم مع الكلور لينتج مركَّباً يسمى (كلوريد الصوديوم) المعروف بملح الطعام، وفي هذا التفاعل الكيميائي فإن الصوديوم يفقد إلكتروناً واحداً بينما يكسب الكلور إلكتروناً واحداً. لكن، يمكننا أن نحقق إضافة أو إزالة البروتونات بواسطة التفاعلات النووية التي تتعامل مع مكونات النواة.
ذهب بالقصف وبالتصادم
إن أول تحويل نووي من عنصر إلى عنصر آخر – من صنع الإنسان – كان على يد العالم الحائز جائزة نوبل في الكيمياء إرنست رذرفورد، الذي قام في عام 1919م، بتحويل النيتروجين إلى أكسجين، بعد أن قصفه بجسيمات ألفا. وبهذا التفاعل النووي، ومن حيث المبدأ أصبحت فكرة تحويل الرصاص إلى ذهب مقبولة علمياً.
وواصل العلماء أبحاثهم في التجارب النووية بعد رذرفورد، وتمكنوا من إضافة عناصر كثيرة إلى الجدول الدوري، بلغت حتى الآن أكثر من عشرين عنصراً. كما تم إحراز تقدُّم على نطاق مختلف عبر ابتكار المسرّعات أو المصادمات الذريّة، التي تُسرع حركة الجسيمات البطيئة والمشحونة بواسطة حقول كهربائية ومغناطيسية قوية جداً، مما يؤدي إلى إكسابها طاقة هائلة نتيجة إيصالها إلى سرعات تقترب من سرعة الضوء. وأضخم المسرعات في الوقت الحالي ما يُعرف بمصادم الهدرونات الكبير الشهير التابع لوكالة «سيرن» الأوروبية. وهو موجود تحت الأرض على الحدود السويسرية الفرنسية، ويبلغ محيط دائرته 27 كم، وفيه تتسرع البروتونات وتتصادم بشكل عنيف جداً بطاقة تبلغ 7 تريليونات إلكترون فولت.ويستطيع علماء الفيزياء النووية اليوم تحقيق حلم جابر بن حيّان وتحويل الرصاص إلى ذهب، ليس من ناحية نظرية فقط، بل من الناحية العملية.
ففي عام 1972م، وجد العلماء بشكل مفاجئ وغير متوقع أن الدرع الرصاصي الرئيس لمفاعل نووي للأبحاث بالقرب من بحيرة بايكال في سيبيريا قد تحول إلى ذهب. كذلك تم الحصول على الذهب من عناصر أخرى كالزئبق والبزموت في تجارب مخبرية.
وفي عام 1980م، كانت هناك تجربة ناجحة في مختبر «لورانس بيركلي» لمجموعة من الباحثين على رأسهم الحائز جائزة نوبل في الكيمياء جلين سيبورج، لتحويل عنصر البزموت الذي يقع بعد الرصاص مباشرة في الجدول الدوري إلى الذهب، باستخدام مسرع الجسيمات. حيث تم فصل أربعة بروتونات من نواة ذرة البزموت متحولة إلى نواة ذرة الذهب.
إن ما يمنع تعميم هذه التجربة – الحلم هو التكلفة العالية جداً للطاقة اللازمة لها، التي تفوق قيمة الذهب بأضعاف مضاعفة، بمعنى أن قيمة المكوّنات أكثر من المنتج بكثير، وهذا يُعد خسارة من الناحية الاقتصادية، ولكن إذا عرفنا في يوم ما عملية قادرة على فعل ذلك وبتكلفة أرخص من الذهب، عند ذلك سنكون فعلًا قد حققنا ذلك الحلم الذي راود الكيميائيين لآلاف السنين. وبذلك، قد لا يكون من المبالغة القول إننا أصبحنا على قاب قوسين أو أدنى من تجسيد حلم حجر الفلاسفة!