ليس العالم كما يتراءى لأفكارنا التي اعتادت أن تتصوره في إطار محدد. هذا الإطار يجمع كل تجاربنا وخبراتنا اليومية. هذا التصور البسيط للعالم قد يبدو فعالا وناجحا ضمن هذا الإطار نفسه. من خلال هذا التصور الذي يعي العالم في ثلاثة أبعاد تمتد الى ما لانهاية وبعد زماني ينساب بالطريقة نفسها لكل المرجعيات المتحركة والثابتة وهو كذلك منفصل عن هذه الأبعاد المكانية الثلاثة وضع نيوتن نظريته في الجاذبية التي أسست لتصور ميكانيكي – آلي للكون يقوم على فكرة الإتصال بين حدث ما في الزمان و المكان وبين سلسلة من الأحداث السابقة عليه.
لكن العالم يبدو مختلف عن هذا التصور البسيط والفعال ضمن إطار مشاهداتنا، فمع سبر أغوار هذا العالم بدا أن العالم يخفي عنا حقائق تختلف تماما عما اعتاد التصور البسيط والمباشر ان يشكل وعينا عنه. فكلما تعمقنا في فهم هذا العالم على المستوى الصغير جدا ، الذرات وما دون الذرات أو على المستوى الكبير جدا للمجرات ، أُجبرنا على الخروج من هذا التصور االبسيط والمباشر. إذ لا يمكن أن نفهم هذا العالم في مستوياته المختلفة بنفس الطريقة الآلية البسيطة التي وضعها نيوتن في فضاء لا متناهي و زمان لامتناهي منفصل تماما عن المكان. فحقائق العالم تبدو أكثر تعقيدا و أبعد عن تصوراتنا المألوفة والمباشرة عن الكون.
فمع نسبية اينشتاين أصبح الزمان والمكان نسبيان ويعتمدان على المرجعيات المتحركة، وتم دمج الزمان والمكان في كينونة واحدة يطلق عليه الزمكان (space-time) وصيغة المعادلات الرياضية بناء̋ على هذا الدمج و نتج عن ذلك فهم جديد للجاذبية مختلف تماما عن التصور النيوتني. فالجاذبية ماهي الا إنحناء في نسيج الزمكان تسببه الكتلة ( او الطاقة ). اذن العالم في أربعة أبعاد يزيح الستار عن حقائق جديدة أمام الإنسان ما كان بالإمكان أن نفهمها لو أننا لم نتصوره في أربعة أبعاد.
في عام 1919 فكر العالم الإلماني كلوزا (Kaluza) بالطريقة نفسها التي فكر بها اينشتاين ، و تساءل عما يمكن أن يكشف لنا من حقائق إذا أضفنا بعدا̋ مكانيا خامسا الى الأبعاد الأربعة . يبدو الأمر غريبا جدا فالأبعاد الأربعة يصعب تصورهم معا فما معنى أن يكون العالم في خمسة أبعاد. كانت القوى الطبيعية المعروفة في ذلك الوقت هي قوة الجاذبية و القوة الكهرومغناطيسية وكان حاصل إضافة هذا البعد الخامس أن جاءت المعادلات الرياضية بمعادلة اينشتاين في الجاذبية و معادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية. كانت النتيجة مفاجئة وعميقة إذ وحد هذا البعد الإضافي القوتين معا في قوة واحدة. لقد أرسل كلوزا النتائج التي حصل عليها الى اينشتاين وتم نشر نتائجه في عام 1921 . قبل مقترح كلوزا لم يفكر أحد بأن ثمة علاقة بين قوة الجاذبية و القوة الكهرومغناطيسية. ولكن مع تصور العالم في خمسة أبعاد يمكن الجمع بين هاتين القوتين. لكن السؤال أين هو هذا البعد الخامس ، لا أحد يراه . في العام 1926 اقترح كلاين (Klein) أن هذا البعد الخامس مجهري أي صغير جدا و ملتو بحيث لا نستطيع رؤيته . إن ذلك يشبه النظر إلى أنبوب اسطواني ، فإذا نظرنا اليه من بعيد جدا فإننا نراه كخط مستقيم و إذا اقتربنا منه فإننا سنرى الجانب المقوس منه. فيمكن أن يكون الكون مكونا من أبعاد كبيرة هي الأبعاد الثلاثة المعروفة بالإضافة الى البعد الزماني و بعدا خامسا مجهري و مقوس لا يمكن رؤيته. ويمكن أن نتصور النسيج الفضائي بأبعاده الخمسة على أنه في كل نقطة في الفضاء منه يوجد دائرة تمثل البعد المقوس الذي لا نراه.
ولكن إذا كان هذا البعد الخامس صغير جدا فما هو مقداره؟ تمكن كلاين أن يجمع بين مقترح كلوزا مع بعض الأفكار من النظرية الكوانتية ليحدد لنا المقدار الصغير لهذا البعد الخامس ، و كان أن جاءت حساباته بأن هذا البعد الخامس صغير بمقدار طول بلانك (planck length) وهو مقدار ضئيل جدا تعجز قدرتنا التجريبية من أن تحدده. و رغم جمال هذه الفكرة لكن لما كان لهذه النظرية تعارض مع معطيات التجربة فعند محاولة دمج الإلكترون في النظرية أعطت المعادلات نسبة كتلة الإلكترون الى شحنته قيمة بعيدة عن التجربة. ولما لم يكن بالإمكان إصلاح هذا التعارض فقد تخلى العلماء بما فيهم اينشتاين عن هذا البعد الخامس المجهري والمقوس.
أعزى بعض الفيزيائيين عدم نجاح المقترح الذي قدمه كلوزا إلى أن كلوزا لم يكن يعلم بوجود قوى أخرى في الطبيعة هما القوة القوية (strong force) و القوة الضعيفة (week force) ، فمع وجود هذه القوى نحن بحاجة إلى إضافة أبعاد اخرى. في سبعينيات القرن العشرين كانت هناك أبحاث مكثفة حول نظريات الأبعاد الكثيرة المجهرية و المقوسة . الشكل أدناه يمثل احد إحتمالية أن يكون النسيج الفضائي بعد إضافة بعدين أخرين على الأبعاد الأربعة حيث يوضح الشكل أن البعدين الإضافيين يأخذان شكل الكرات عند كل نقطة في هذا النسيج.
هذه الفكرة المثيرة حقا و التي تتصور وجود أبعاد إضافية صغيرة جدا أصغر من قدرتنا التجريبية على الوصول اليها تدفع بالفكر النظري الرياضي الى أن يصيغ هذا العالم في هذه الأبعاد و يحاول من خلال هذه المعادلات الرياضية أن تجد حلولا لم يكن بالإمكان على المستوى النظري الرياضي أن نجد لها حلولا. و لذلك جاءت نظريات تصف العالم في أبعاد عليا منها نظرية الجاذبية العليا. و كما أن هذه الفكرة تدفع بالخيال الروائي إلى صناعة قصص و روايات عن عوالم و حضارات تعيش في هذه الأبعاد الصغيرة.
لم تكن هذه الأبعاد الإضافية الا فكرة حولها العلماء الى مجموعة من المعادلات الرياضية و كان أن جاءت هذه المعادلات بنتائج مهمة. ظل الأمر كذلك حتى جاءت نظرية الأوتار. إذ جاءت هذه النظرية كمحاولة للجمع بين نظريتين كبيرتين في الفيزياء و لكن غير متوافقتين هما النظرية الكمية و التي هي ناجحة و فعالة على المستوى الذري و ما دون الذري و نظرية اينشتاين في الجاذبية و التي هي فعالة في الكتل الكبيرة جدا .
و لكي يتم التوفيق بين هاتين النظريتين من خلال تصور أن الأساس المكون للعالم هي أوتار صغيرة جدا تهتز و ينتج عنها الجسيمات المكونه لعالمنا تطلب الأمر أن يكون للعالم عشرة أبعاد. تسع منها مكانية و بعد زماني واحد. هذه الحاجة الى هذه الأبعاد الستة الإضافية لم يفرضها الخيال ليضعها بعد ذلك في قالب رياضي بل أن نفس المعادلات الرياضية التي تصف هذه الأوتار المهتزة تفرض الحاجة إلى هذه الأبعاد. و وفقا لنظرية الأوتار فإن العالم يتضمن أبعاد ستة إضافية و مقوسة على شكل يسمى كالابي- ياو . الشكل أدناه يوضح النسيج الفضائي بعد إضافة ستة أبعاد مكانية عند كل نقطة فيه.
هذه ميزة مذهلة لهذه النظرية التي تصور العالم في عشرة أبعاد. هذه النظرية هي المرشحة عند العلماء لتوحيد جميع القوى في الطبيعة.
شكرا لك على هذا الأثراء المعرفي بلغة سهلة جميلة.