نحن والتنمية – د. عبد الجليل عبد الله الخليفة

إن السعي للتطور و التنمية الإقتصاديه كان ومايزال هدفا نبيلا سعت و تسعى له البشرية منذ نعومة اظفارها, وبه تطورت الحياة و تم اختراع الفأس و الخياطة والكتابة والطباعة و الماكينة والحاسب الألي والهواتف المحمولة وغيرهم .
و على مر العصور تقاسمت الأمم حصصها من التطور والرفاه فانتقلت الحضارة تاريخيا من الصين والهند و بلاد الرافدين و الشام ومصر ودمشق وبغداد و غيرهم وهي الآن في عصرها الذهبي في بلاد الغرب و اليابان والصين وغيرهم .
ومن الإنصاف أن نشهد بأن عجلة السباق قد تسارعت و أن الناتج الإنساني قد تضاعف كثيرا في القرون الأخيرة حيث انتقل الإنسان من اقتصاد الزراعة الى الصناعة و منها الى المعلومات واخيرا الى الإتصالات حتى بلغ الناتج الإقتصادي البشري خلال القرنين الأخيرين مايعادل 95٪ من مجموع ما أنتجه الإنسان منذ بداية البشريه ، اما التطور العلمي فأصبح يتضاعف كل عشرين الى ثلاثين عام .
وحين ننظر الى هذه الثورة العلمية والإقتصادية خلال القرون الأخيرة، يمكننا ان نعزو ذلك الى مايلي :
اولا: اطلاق الطاقات البشرية من أغلال التعسف الكنسي في اوروبا والإستفادة من الحركة الإصلاحية البروتستانتيه الدافعة للعمل والكدح والتوفير و الإستثمار .
ثانيا: تأسيس المؤسسات والشركات و تطويرها نتيجة الإبتكارات التنظيميه والإداريه مثل تقسيم العمل لآدم سميث و خطوط التجميع لهنري فورد و أنظمة الشركات ذات المسؤولية المحدوده وغيرها .
ثالثا: سيادة القانون و النظام والحماية للمخترعات العلمية والإقتصادية مثل براءة الإختراع و الماركات التجارية وغيرها .
رابعا: التنافس المحموم في النشاط العلمي و الإقتصادي داخل اوروبا وخارجها لتحقيق الثروة والسيطرة .

وهكذا تطور العلم ونشط الإقتصاد و تكدست الثروات فتأسست الأساطيل البحريه لسبر البحار والمحيطات و سلحت الجيوش لحماية الدول والبحث عن فرص خارج الحدود لبسط النفوذ والإستفادة من خيرات البلدان الأخرى فحدث مايلي :
1 .الغزو البرتغالي والإسباني والهولندي و ثم البريطاني والفرنسي والإيطالي لإفريقيا وبعض دول آسيا وتبعه استعمار هذه الدول لعشرات السنين .
2 . التمدد الأوربي غربا نحو القارة الأمريكيه.
3 .استعباد الرق من افريقيا وغيرها وجلبهم لأمريكا لزراعة الأرض ولخدمة المهاجرين من اوروبا .
4 .الصراع العسكري في حروب عالمية اولى و ثانية و حروب باردة للسيطرة على أنحاء العالم عسكريا واقتصاديا .

النظام الإقتصادي الرأسمالي :
انه لأمر فطري أن يعمل الإنسان و يحقق فائضا عن حاجته اليوميه فيوفرها و يستثمرها حيث انه قد يحتاج لها في مستقبل حياته. و هكذا عمل البشر في غابر الأزمان في الرعي ثم الزراعة و تعاملوا في تبادل الحيوانات و المحاصيل و من ثم استخدموا المعادن النفيسة و اخيرا النقود المسكوكة وغيرها. و لكن تباشير العصر الصناعي جلبت معها اساليب سريعة وفعالة لصناعة الثروة مستخدمة المصادر الطبيعية و المال و الماكينة و العمالة و برز السؤال كيف يمكن توزيع الفائض المالي بين عناصر الإنتاج هذه؟. و حيث أن أرباب المال هم الأسبق في الإستفادة من الفرص السانحة فقد وظفوا اموالهم لشراء الآلات و توظيف العمالة و تأسيس المصانع. وكانت الأجور رخيصة جدا مع ساعات عمل طويلة. و هذا ما أحدث الكثير من الجدل فكيف يحق لصاحب الثروة ان ياخذ نصيب الأسد بينما يتحمل العامل مصاعب و مشاق العمل الجسمية والنفسية. فولدت في اوروبا مدرستان يقودهما الكثير من المفكرين. فبينما برز آدم سميث كمنظر للرأسمالية كان ماركس منظرا للشيوعية. و من الجدير ذكره أن كلا المدرستين تعنى بالجانب المادي و المصلحة المادية للفرد والمجتمع دون أن تعنى بتشريع السماء او العلاقة مع الخالق. فالرأسمالية لاترى مساحة لتشريع الخالق في الأمور المادية و انما تقتصر العلاقة بين الفرد وخالقه على العبادات لا المعاملات. أما الشيوعية فلا تؤمن إلا بوجود العالم المادي .


ترى الرأسمالية أن الفرد هو محور الكون فله مطلق الحرية في التملك و التوفير والإستثمار و أن مصلحته المادية تحقق في النهاية مصلحة المجتمع. لذا فان الفردية والمصلحة المادية الذاتية هي السمة الرئيسية والدافع الرئيسي للعمل حسب الفكر
الرأسمالي. فللفرد الحق في تملك الثروة و تأسيس المصانع و استخدام الآلة و تأجير العمالة. و أن السوق هو اليد الخفية التي توازن العرض والطلب على السلع و اليد العاملة. و أن مصلحة صاحب المصنع أن يجني مردودا ماليا على رأس ماله المستثمر و ذلك ببيع المنتج في السوق. و حيث أن سعر المنتج يعتمد على كمية المنتج المعروضة وجودتها و كمية الطلب فإن من صالح صاحب المصنع أن يعطي رواتب كافية للعمالة للعيش و لشراء المنتج ليكون الطلب متناسبا مع كمية الإنتاج. و هكذا يلعب السوق دورا خفيا لتحديد سعر المنتج بما يضمن مردودا كافيا لصاحب المصنع و راتبا عادلا للعمالة وهكذا تتوزع القيمة المضافه بين أصحاب الثروة والعماله. وحين يعمل كل فرد في المجتمع لتحقيق مصلحته الذاتيه فان الناتج النهائي هو تحقيق المصلحة الإجتماعية. هكذا رأى آدم سميث . بينما يرى ماركس أن مايحدث في اوروبا هو تكديس للثروة لدى الأغنياء و استغلال بشع للعمالة الرخيصة و ان مصلحة الفرد لايمكن ان توافق مصلحة المجتمع في أغلب الأحيان. فالغني يهدف الى تنمية ثروته على حساب العامل بينما يعيش العامل تحت رحمة صاحب المصنع. و لذلك يرى ماركس أن المجتمع هو محور الكون و أن المصلحة الإجتماعية هي الضامن لمصلحة الأفراد و ليس العكس كما يبشر به آدم سميث. كما ويرى ماركس ان حب التملك ليس امرا فطريا فالإنسان البدائي عاش حياة بسيطة يرعى الحيوانات و يزرع أرضه. و كانت الثروات تتوزع على المجتمع بصورة شبه متساوية حتى تأسس الإقطاع فملك الإقطاعيون الأراضي الكبيرة و بدأوا في استخدام الأجراء و العبيد. وحيث ان الآلة و الصناعه دخلت كمغير رئيسي فإن ترك الأمور على عواهنها سيحقق ثروات طائلة للأغنياء مما سيسبب فوارقا طبقية وخللا اجتماعيا رهيبا سيؤدي الى ثورة عمالية تنتصر على الرأسمالية فيملك المجتمع ثرواته و التي ستتوزع بعد ذلك على أبنائه حسب المقولة : (من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته). و هذا سيحقق العدالة الإجتماعية و التي بدورها ستحقق سعادة الأفراد.

فالحكومة كما يبشر بها هؤلاء ستكون المالك للثروات نيابة عن المجتمع و هي من يخطط للعرض و الطلب و هي من يحدد الأسعار دون اي مجال لحركة السوق وسلطته. و هكذا عاش العالم في صراع فكري و حرب باردة بين النقيضين الغربي الرأسمالي و الشرقي الإشتراكي حتى انسحبت الإشتراكية عمليا من ميدان الصراع بسقوط جدار برلين عام 1989م و تفكك الإتحاد السوفيتي عام 1991م و لاشك ان انتقاد الماركسية للنظام الرأسمالي محق و هذا مانراه من فوارق طبقية في المجتمع الغربي و لكن البديل الإشتراكي و الشيوعي لم يكن مناسبا ولا ناجحا.

ان غريزة حب الذات و حب التملك هي من الأمور الفطرية و المعاشية التي تولد مع الإنسان و لذلك لايمكن إغفالها وتجاهلها و كما لايمكن أن نحقق مصلحة الفرد المادية كما يدعي ماركس حينما تتحقق مصلحة المجتمع. فلا يمكن عقلا أن يقبل المثابر و المبدع مكافأة على عمله تعادل او تقل عن الكسول الجاهل بدعوى أن المصلحة الإجتماعية تحقق للجميع مصلحتهم الفردية. ان جدلية الفرد و المجتمع و تحقيق المصلحة الفردية والإجتماعية على حد سواء لايمكن تحقيقها بالرأسمالية ولا بالإشتراكية. فبينما تضحي الرأسمالية بمصلحة المجتمع لحساب الفرد نجد ان الشيوعية تضحي بمصلحة الفرد لحساب المجتمع .
و حيث ان الرأسمالية لاتزال هي النظام الفاعل في الساحة البشرية حتى الآن فإنها تستحق بعض المناقشة. لقد أدت الرأسمالية دورا فاعلا في شحذ العزيمة و تشجيع المنافسة على مستوى الأفراد و الشركات بما حقق تطورا متسارعا في العلوم والتكنولوجيا مما انعكس ايجابا على حياة الناس. فبينما تسارعت المخترعات الحديثة وتأسست الشركات الصناعية والتجارية انتقل الإنسان من حياة بسيطة تعتمد على الأساسيات الى حياة تملؤها أسباب الترف و الرفاهيه. و كان من وسائل الرأسمالية لتنشيط الأسواق والحركة التجارية حملات الدعاية والتسويق لهذه المنتجات مما يسبب زيادة الطلب و رفع مستوى الإنتاج و تحقيق مستوى اعلى من الأرباح. لذا فإن الإقتصاد الرأسمالي يعتمد كثيرا على تشجيع الإستهلاك لتدوير السيولة مما يحقق زيادة في الطلب و رفعا للإنتاج .
و هكذا نمت الثروات و تأسست الشركات و التروستات الإحتكارية العابرة للقارات، فمثلا تأسست في بريطانيا شركة الهند الشرقية البريطانيه حوالي عام 1600م لتجارة التوابل و لتكون يد بريطانيا الضاربة في العالم الشرقي. و حقا حكمت هذه الشركة الهند حتى عام 1858م حيث حلت بعد ذلك الحكومة البريطانيه في استعمار الهند. ومثلها أسست هولندا شركة الهند الشرقية الهولندية. و لاننسى شركة رويال دتش الهولنديه التي اندمجت مع شركة شل البريطانيه لتصبح رويال دتش شل وشركة ستاندرد اويل الأمريكيه و مالكها روكفلر و التي اصبحت فيما بعد شركات عدة منها اكسون و موبيل و تكساكو و شيفرون و غيرهم .

المدرسة الكنزيه (keynes):
لقد عانى الإقتصاد العالمي الرأسمالي عدة صدمات خلال القرنين الماضيين دفعت المفكرين الإقتصاديين الى ابتكار الحلول المناسبة. و كان من ضمن هؤلاء المفكرين Keynes الإقتصادي الإنجليزي المعروف فبعد حدوث الكساد الإقتصادي الكبير عام 1929 – 1932 م انخفضت التجارة العالميه الى 50 ٪ و ارتفعت البطالة حتى بلغت 25 – 33٪ و تراجع الطلب العالمي مما دفع الشركات الى تسريح عمالة اكثر و هكذا تسارعت الامور الى التدهور دون أن يقدم السوق اي حل سحري لهذه المعضلة.
فانبرى كينز ليؤسس لمدرسته الفكريه و التي نادت بالتدخل الحكومي لتحفيز الإقتصاد وذلك بصرف مبالغ طائلة من الميزانية الحكومية على مشاريع بنى تحتيه لتحفيز الطلب مما سيؤدي بالشركات لرفع الإنتاج و تشغيل العمالة فتنخفض البطالة وتتحرك عجلة الإقتصاد، (Fiscal Stimulus) ، وكان يرى أن المسؤولين الحكوميين إن أخلصوا في عملهم فإنهم يستطيعون تصميم مؤسسات اقتصادية قادرة على التحكم في السوق بما يصحح حركة العرض و الطلب. و الجدير ذكره ان كينز اشترك في تأسيس منظمة النقد الدولية و البنك الدولي كإسعاف ضروري عند الحاجة لتصحيح الأوضاع الإقتصادية في البلدان العالمية .

مدرسة شيكاغو :
في سبعينات القرن الماضي 1970م رأى ملتون فريدمان وزملاؤه في جامعة شيكاغو و امتدادا لنظرة بعض السابقين لهم أن التدخل الحكومي يسبب أضرارا اقتصادية كبيرة مما يضر بفعالية السوق لذا فمن الأفضل إعطاء السوق كامل الحرية لتحديد العرض و الطلب. وكان رأيهم أن مصالح السوق الخاصة تنسجم مع الصالح العام و ان إخفاقات الحكومات حين تتدخل في اقتصاديات السوق اكثر من إخفاقات السوق و ان السماح للحكومات بصنع القرارات نيابة عن السوق خطأ جسيم. فالبنوك المركزية تستطيع بتحديد سعر الفائدة على الودائع الحفاظ على التوازن النقدي بين العرض والطلب بما يوفر سيولة مالية كافية لتحريك عجلة الإقتصاد، (Monetary Stimulus). و قد أعطى هذه المدرسة  زخمها الرئيس رونالد ريغان في الولايات المتحدة الإمريكية ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، عندما أطلقا موجة تخصيص كبيرة للعديد من المؤسسات الحكومية بدعوى تخفيف التدخل الحكومي و وضع المؤسسات تحت ميكانيكية السوق مما سيحقق رفع الإنتاجية وتقليل التكاليف و تحسين الفعالية .
و أبان الإزمة المالية التي عصفت بالإقتصاد العالمي عام 2008م ، تنادت الدول الغنية لإجتماع طاريء و اعلنت حزمة متكاملة من التدخل و الإنفاق الحكومي لإنقاذ البنوك و الشركات و المؤسسات التي تعاني من ديون متراكمة و خسائر سوقية. كما وانها قد خفضت سعر الفائدة محاولة اعادة الثقة وتوفير السيولة اللازمة لتحريك عجلة الإقتصاد. و قد استعاد الإقتصاد العالمي بعض عافيته و لكن بتكاليف باهضة و مديونية عالية تحملتها الحكومات المعنيه. اما في دول الإتحاد الأوروبي فقد تحملت المانيا وفرنسا تقديم القروض للدول الأخرى كاليونان و غيرها و من ثم فرضت عليها اجراء العديد من خطوات التقشف. و قد تسببت هذه الخطوات في تسريح الكثير من العمالة.
و هكذا نجحت المدرستان الكنزية و مدرسة فريدمان النقديه في معالجة الإنهيارات الإقتصادية حتى الوقت الحاضر. و ليس من المؤكد انهما يستطيعان حل المشاكل المستقبلية .
و هنا لابد أن نشير الى الإقتصاد الصيني وهو وإن كان حكوميا مغلقا في البداية الا أنه مع سياسة الإنفتاح التي مارستها الحكومة الصينية منذ الثمانينات، فقد تحول هذا الإقتصاد تدريجيا الى اقتصاد السوق و لكن ضمن تخطيط حكومي فبقيت بعض المؤسسات و الشركات الكبرى في ملكية الحكومة الصينيه. و اصبحت الصين ورشة العالم الكبرى حيث افتتحت اغلب الشركات مصانعها في الصين حيث العمالة الرخيصة و المرونة في حماية البيئة و الضرائب المنخفضة. و قد تضاعف الفائض المالي لدى الصين حتى بلغ تريلونات الدولارات. لاشك ان الإقتصاد الصيني يمثل منافسا قويا للإقتصاد الغربي و ان كان يعاني من امور اخرى لسنا بصدد نقاشها .

 
ملاحظات على الإقتصاد العالمي :
لقد مارست الرأسمالية تجربتها العملية على حياة الناس طيلة القرنين الماضيين، تحقق فيها ما يلي :
اولا: بلغ الناتج العالمي السنوي الآن 78 تريليون دولار منها 18 تريليون ناتج الولايات المتحدة الأمريكية و 12 تريليون ناتج الصين و 5 تريليون ناتج اليابان. وقد حدث هذا التطور في جميع القطاعات مثل الزراعة و الصناعة و المعلومات و الإتصالات .
ثانيا: لايزال العالم منقسما بين دول غنية يحقق الفرد فيها ما يتراوح بين ثلاثين آلف ومائة ألف دولار كدخل فردي سنوي و اخرى فقيرة جدا يبلغ متوسط دخل افرادها السنوي اقل من الف دولار. و يعيش حوالي 30٪ من سكان العالم اي حوالي بليوني فرد تحت مستوى خط الفقر الذي عرفته الأمم المتحدة بدخل لايتجاوز دولارين يوميا. و تزداد الهوة بين الدول الغنية و الفقيرة سوءا مع مرور السنين .
ثالثا: في العالم الغني يملك 1٪ من المواطنين حوالي 10٪ من الثروة بينما يملك 10٪ من المواطنين اكثر من 50 ٪ من الثروة و هذا التفاوت الطبقي الرهيب قد ازداد في السنوات الأخيرة .
رابعا: اصبحت المعاملات المالية والأسواق المستقبلية مصدرا للثروة تتعامل فيها البنوك و الدول و المؤسسات المالية مما رفع مستوى المعاملات الورقية الى عشرات اضعاف قيمة الناتج الإقتصادي في الأسواق الفعليه .
خامسا: تهدد الديون التراكمية اقتصاديات بعض الدول مما يجعلها تحت رحمة البنك الدولي و منظمة النقد الدولية و الدول الدائنة لها .
سادسا: يستمر العالم الغني في بسط سيطرته وتأثيره على الدول النامية بما يحقق مصلحة الدول الغنية على حساب الدول الفقيرة .
سابعا: يعاني الاقتصاد من دورات حادة يكون ضحيتها غالبا العمالة فمثلا نتيجة انخاض سعر البترول الحالي و منذ عام 2015م حتى الآن تم تسريح 350000 مهندس وعامل في الشركات النفطيه. كل ذلك نتيجة ضغوط الأسواق العالمية على ادارة الشركات المدرجة لتقليل التكاليف .

الحياة الإجتماعية في البلدان الغنية :
لقد اطلقت الحركة اللوثرية البورتستانتيه الإصلاحية شرارة التغيير في العالم الغربي فانسلخ عن الرهبنة وانطلق ليعزز الحركة العلمية و اندفع بحرارة و قوة للعمل والتوفير والإستثمار مقتنعا ان ذلك يحقق رضا الرب. تزامن ذلك مع دخول الآلة الى الزراعة
مما ضاعف الإنتاج و انطلق المهاجرون الى العالم الجديد بقناعة مفادها ان الثروة و تحصيلها واستثمارها هي اعمال جليلة يرضى بها الرب .
اما على الصعيد الإجتماعي فقد بدأ التغيير في بريطانيا منذ عام 1500م واستمرت الحركة التغييرية حتى عام 1700م  حيث استقرت الامور ضمن نظام متكامل يحمي حقوق الجميع و يحقق الأمن و الظروف المناسبة للإبداع. وفي عام 1776م قرر المهاجرون الى العالم الجديد اعلان استقلال الولايات المتحدة الامريكية عن بريطانيا العظمى ووضعوا اعلانهم الشهير المتضمن حقوق التمثيل والملكية و حق سن الضرائب. تزامن ذلك في نفس العام مع نشر كتاب ثروة الأمم لآدم سميث منظر
الرأسمالية. وحدثت الثورة الفرنسية بين (1789 – 1798م) لترفع شعارات الأخاء والحرية والمساواة و تبني نظامها بناء على العقد الإجتماعي الشهير. فتأسست الأنظمة الوضعية لتعلن الطلاق الفعلي مع الكنيسة وتأثيرها على مجريات الحياة اليومية .
و هكذا تعززت ثقة الانسان الغربي بالقوانين الوضعية في ظل انحسار الكنيسة و في خضم الإختراعات العلمية و صناعة الثروة الذي عاشته دول اوروبا وامريكا. و قد حفظت هذه القوانين حقوق الفرد والملكية الفردية بغض النظر عن الجنس و الدين و القومية. اما القوانين الامريكية فلا تزال آنذاك تعاني من عقدة الرجل الأسود و الذي استمر في حياة الامريكيين حتى نجحت حركة مارتن لوثر كنغ في انتزاع المساواة مع الرجل الأبيض قبل حوالي خمسين عاما فقط اي في ستينات القرن العشرين .
و تدريجيا انحسر دور الكنيسة و حل محله الدافع المادي و المصلحة الفردية لتصبح صناعة الثروة هي الدافع الرئيسي للعمل والحركة. و هكذا بدأ الفرد الغربي و بدعوى الحرية الفردية في استخدام ثروته المادية في نواحي الترف المختلفة .
و قد لعبت الحروب العالمية الأولى والثانية دورا رئيسيا في تغيير المحتمعات الغربية. فحين انطلق الرجال في جبهات القتال ابان الحرب العالمية الثانية كان من الطبيعي ان تقوم المرأة بالعمل داخل المدن و السهر على رعاية المنزل. و ما ان هدأت الحرب حتى انطلقت المرأة تنادي بحقوق المساواة مع الرجل. وحين بدأت مرحلة البناء بعد الحرب في اوروبا وامريكا عملت المصانع بكل طاقتها و احتاجت لتوظيف الرجال والنساء و نمى الإقتصاد الغربي نموا مطردا و ازدادت الثروة. و كان للدعاية والتسويق اثرهما الفعال في تحريك الأسواق و تشغيل المصانع، حيث انبرى اصحاب الشركات في موجة دعائية قوية ووجدوا من المرأة وسيلة جذابة للرجال فادخلوها في اشكال الدعاية المختلفة. و قد كانت قليلة و بسيطة نسبيا كعرض صورة امرأة تلبس بنطلون الجينز على غلاف مجلة ومع ذلك فقد لاقت استهجانا في البداية نظرا لعدم تعود المجتمع على استخدام المرأة في الدعاية، ولكن تدريجيا تم التعود على ذلك و هكذا تم رويدا رويدا استخدام المرأة في أصناف الدعاية المختلفة .
فكر بعض المستثمرين و من وراءهم في مجالات جديدة لصناعة الثروة تتخصص في الجنس و توابعه فتأسست مثلا مجلة ماجنة لا حاجة لذكر اسمها في عام 1953م لتلقى رواجا قليلا في البداية ثم ازدادت رواجا حتى باعت من احدى نسخها اكثر من سبعة ملايين نسخه في عام 1972م .  و هكذا تأسست النوادي و انتجت الأفلام و اخذت منحى منفلتا أرخى بسلبياته و آثاره على الأجيال الغربية الجديدة. و حين نعرف ان الفرد الغربي يملك كامل حريته و استقلاله عن عائلته حين بلوغه عمرا يتراوح بين 18 و 21 عاما، يتبين لنا مستوى التغيير الذي يمكن حصوله في وقت مبكر من عمر الأفراد. و هكذا اصبح من المعتاد اجتماعيا وخاصة في المدن الكبرى المختلطة ان يتصرف الرجل والمرأة بكل حرية لتلبية شهواتهم. وأصبحت الحياة الفردية دون الإلتزام بالأسرة و مسؤولياتها طبيعية و غير مستغربة. و اخيرا تم تشريع زواج المثليين و اسقاط الجنين و تدخين الماروينا في بعض الولايات الإمريكية والدول الاوروبية. و لعل هناك الكثير من التغييرات المستقبلية التي يسعى البعض لتشريعها. وهنا لابد ان نؤكد ان بعض المجتمعات الغربيه لاتزال محافظة و تستهجن التشريعات الأخيرة. بل ان هناك الكثيرون من الملتزمين بالتماسك الأسري والأخلاقي رغم السيل الإعلامي الجارف. اما على مستوى الدول ففي بعضها لايسمح رسميا بتجارة الجنس والقمار الا في مناطق محدودة .
لقد لعبت الحرية دورها في التحرر من سلطة الكنيسة و رهبنتها وأطلقت مارد العلم والإقتصاد وحققت الإنجاز تلو الإنجاز. و لكنها وللأسف سببت تفككا أسريا رهيبا و جعلت من الإنسان الغربي ماكينة و آلة تتحرك للمادة و بها بروح فردية و مصلحة مادية. هذا لا يتنافى مع حب العمل و النظام والأمانة و تطبيق النظام و غيره من القيم الرائعة التي يعيشها الإنسان الغربي. من هنا يجب ان نستفيد من هذه القيم العملية دون ان تستهوينا الحرية المطلقة المنفلتة من القيم الأخلاقية. فالتقدم الغربي علميا واقتصاديا تحقق بالنظام و القيم العملية المذكورة سابقا و لم يتحقق بالإنحدار والإنفلات الأخلاقي و التفكك الأسري. ان استيراد النسق الغربي و الإنبهار به دون التمييز بين جيده ورديئة خطأ كبير لابد ان ننتبه له ونحن نرسم طريق التنمية لبلداننا .

المصلحون و التنمية :
يتطلع ابناء الدول النامية و حكوماتهم للحاق بركب التطور ورفع مستوى المعيشة وتوفير الفرص الوظيفية بما يضمن للأفراد عملا شريفا و حياة كريمة. و قد عانت هذه الدول الويلات حتى تحررت من الإستعمار العسكري المباشر و لكنها وبعد عشرات السنين لازالت في وضع مؤسف و بطالة مرتفعة و دخل متناقص. فما هو السبيل للتنمية؟ .
لقد درس هذه الظاهرة المصلحون الأوائل فرأوا ان التعليم هو الحل الأمثل وقال في ذلك جمال الدين الافغاني بما معناه ان العلم يسبق السيطرة فاينما ذهب العلم انتقلت القوة معه. و حقا ابتعثت الدول الكثير من الطلبة لتلقي العلوم في دول الغرب. اما اليوم فتزخر الجامعات في الدول النامية و لله الحمد بمئات الألاف من الخريجين. وهذا نجاح باهر يحق لبلداننا الإفتخار به. و الواقع ان التعليم ضرورة للتنمية ولكنه ليس كافيا بل يجب ان يحدث ضمن عدة امور اخرى. فالخريجون مثلا يحتاجون الى فرص وظيفيه والا فسيصبحون من العاطلين عن العمل. ثم ان العلم قد تسارع فاصبحت البحوث و التطوير و الإبداع و الإختراعات هي المقياس و ليس فقط إنهاء المرحلة الجامعية او مابعدها .

بين الأصالة و الحداثة :
لقد استمر السؤال عن سبل التنمية ليشغل المخلصين من ابناء الدول النامية. فنتج عن ذلك جدل حاد بين المفكرين ففريق نادى بالأصالة وفريق نادى بالحداثة. و قد يبدو الفريقان على طرفي نقيض ولكنهما يهدفان جميعا الى تحقيق التنمية المنشودة. ففريق الأصالة يدعو للتمسك بالقيم و العقائد الدينية و الإبتعاد عن التقاليد الغربية خوفا من التغريب و هجران العقيدة. و يرى ان هذا هو السبيل الذي حققت به الأمة الإسلامية في صدر الإسلام السبق العلمي و الحضاري. بينما يرى فريق الحداثة ان إقحام الدين في امور الدنيا خطأ جسيم و ان الغرب قد حقق التقدم حين تحرر من سلطة الكنيسة وتعسفها. فلا يجب ان نقحم الدين في عملية التنمية. و استمر الجدل بين الفريقين حتى كاد البعض ان ينسى ان هدف الفريقين واحد و هو تحقيق التنمية .
و الواقع ان الحضارة الغربية و التطور العلمي والإقتصادي بدأ دينيا بالتحرر من رهبنة الكنيسة و استفاد من الزخم العقائدي لتحريك الطاقات البشريه لذا فليس من الممكن سلخ الأمة عن عقيدتها و افقادها الزخم الديني خاصة في هذا المشوار الطويل الشائك.
و لكن في نفس الوقت يجب علينا التدقيق في الاعراف والتقاليد التي ورثناها و ليست من الدين في شيء و منها الفرقة و التشتت تحت مسميات و عناوين مختلفة. كما ان علينا ان ناخذ من الغرب الكثير من صفات العلم والعمل والأمانة مِمَّا نحتاج له الآن.
لذا فالواجب الجمع بين الزخم الديني والدافع العقائدي مع الأساليب و الأنظمة الغربية في اساليب العلم والعمل بما لايتعارض مع الأحكام الشرعية. وهنا من الواجب إن كنّا نهدف الى التنمية ان لا ننشغل بتوافه الأمور بل يجب ان نركز على الحلول العملية التي تضمن سلامة المسيرة و تبعدنا عن أسباب التشرذم و الفرقة. فليس من التنمية ان ننشغل بمناقشة اي الفريقين أصح او أفضل و ننسى ان أمامنا طريقا طويلا يستحق تعاون الجميع لخدمة التنمية المطلوبة. يكفينا ان نتفق على الهدف المطلوب وهو تنمية بلداننا و لنعمل جميعا لما فيه احترام الاّراء المختلفة و تحقيق الهدف المشترك .


سبيل النهوض :
ان الطريق الى التنمية يكون كما يلي :
اولا: بناء الإنسان. ان التنمية تهدف الى خدمة الإنسان واحترامه و توفير حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن وتعليم ووظيفة تحفظ كرامته. و هي في ذات الوقت ترى ان الإنسان قاعدتها الأساسية. لذا فإن اول خطوات التنمية تتحقق بدعم المسيرة التعليميه و التجريبيه و تشجيع البحوث و التطوير و الاستفادة من جميع الطاقات بما يخدم مسيرة التنمية. ان التنمية التي تلامس قلب الإنسان وتهدف الى كرامته و تستفيد من طاقاته و تضمن له حقوقه جديرة بأن يضحي من اجلها بعقله و جسمه وكل ما يملك .
ثانيا: بناء المؤسسات و الشركات من تخطيط وتنظيم ومحاسبة وادارة تبتعد عن العشوائية و تستفيد من الفرص السانحة تجاريا واقتصاديا. وهنا لابد ان نستفيد من جميع الطاقات الوطنية و الكفاءات المخلصة لبناء بلدانها و تنمية اقتصادياتها. ان قيادة
المؤسسات الإقتصادية باخلاص وامانة ضرورة قصوى لايمكن التفريط فيها لأسباب و نوازع شخصية، ذلك لأن المنافسة شرسة وعالمية و تحتاج لجميع الطاقات والكفاءات .
ثالثا: سن و تطبيق النظم و القوانين التي تحمي الحقوق العلمية والإقتصادية لأفراد المجتمع و مؤسساته بغض النظر عن الفوارق المناطقية والقبلية والقومية والدينية كما وتحارب جميع انواع الفساد الإداري والمالي .
رابعا: صناعة القرار الأمثل بما يضمن الإستفادة القصوى من المصادر الطبيعية و تشجيع المؤسسات الوطنية وحماية الصناعات و الأسواق المحلية من الإغراق الأجنبي و الموازنة بين القطاع الحكومي والخاص .
خامسا: ان اطلاق التخصيص على مصراعيه قد يسبب خللا ماليا و اجتماعيا يصعب معالجته. ان البديل عنها هو ان يتم تخصيص بعض المؤسسات الخدماتيه للقطاع الوطني الخاص و بطريقة تضمن التوازن في توزيع الثروة بين طبقات المجتمع و تحافظ على مستوى مقبول من الأسعار للمستهلكين و هي من الخطوات التي يمكن البدء فيها تدريجيا .
سادسا: ان فتح الأسواق للشركات الأجنبية سيقضي علَى الكثير من الشركات المحلية الصغيرة و المتوسطة مما سيسبب تسريح الكثير من العاملين و يلحق خسائر جمة بالقطاع الخاص. لذا فمن الممكن دمج الشركات الوطنية و مساعدتها على المنافسة العالمية تدريجيا .
ندعو الله أن يوفق المسؤولين عن التنمية وأن يهبهم الحكمة و توخي القرارات الصائبة لتحقيق النمو والرفاهية لبلداننا العزيزة .
قد تكون لنا عودة للحديث بالتفصيل عن سبيل النهوض. و الحمد لله رب العالمين .

 

تعليق واحد

  1. سامي جمعة الرمضان

    الشكر لعزيزنا أبامحمد،،
    على أستعراضه السردي لتأريخ الحركة والتطور الأقتصادي الأممي وقد أسهب فيه..
    لكن
    على المستوى الشخصي لم أستفد من هذا السرد، حيث لم يأت عزيزنا بتحاليل جديدة و لا مسابر و لا نتائج نستخلص منها العبر..!!
    وبالرغم من آخر نجاحاته التي أظهرها في إدارة شركة دراغن أويل و دراساته السابقة،إلا أن المؤلف آثر السرد القصصي دون تقديم وجهة نظره الخاصة و المتضمنة للحلول الممكنة لتنقلنا من حالة الريع الأقتصادي إلى المساهمة الحقيقية في المنتوج الأقتصادي الذي لا يتجاوز ال(١٪‏) على مستوى العالم.

    سامي جمعة الرمضان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *