لعل البعض يخالفني في تعريف الصورة الفوتوغرافية أو اللوحة المرسومة (painting) حسب مرئياتي لها حين أسلط الأضواء على جانب واحد منها وبشدة، فلعل تركيزي على الجانب الفلسفي منها بشكل مكثف يجعل البعض يظن أني قد أهملت الجوانب الأخرى لتلك العناصر المكونة للصورة كالجوانب الفنية والتكوينية وتنسيق العناصر وفق إطار اللقطه وكذلك اختيار الزوايا المناسبه وتوزيع الإضاءة وسرعة الغالق المناسبه وغيرها علما بأني أمتلك قناعة تامة أن الصورة إذا مافقدت أي عنصر في هذه الجوانب فإنها لاتمثل الصورة بمعناها الواقعي الحقيقي.
فتعريف الصورة في نظري – بالإضافة إلى جميع تلك العناصر السالفة الذكر – هي لحظة متمثلة في جزء من مئة من الثانيه أو حتى جزء من ألف منها أو أقل أو أكثر يتم خلالها تجميد مشهد بكامل عناصره أو تجميد مسرح أحداث في زمن معين وذلك بكل ما يحتويه من تفاصيل بيئيه مختلفة ذات طابع زراعي أو بحري أو طبيعة جبال او رمال او تركيز على فنون معماريه أو مهنيه وبما تتضمنه من أنشطة بشريه شاملة وفعاليات ومناسبات ذات طابع تقليدي توضح أدق التفاصيل مشتملة حتى على تغيرات أنماط الملابس وأساليب العادات والتقاليد المتبعة وطرق ممارسات المهن والحرف بالإضافة للأدوات المستعملة في تلك الحقب الزمنية الماضيه، وقد تظهر الصورة لنا أحداث مهمة يتناقل الناس أطراف الأحاديث حولها عبر الزمن ويكتب عنها الصحفيون والكتاب ويوثقها المؤرخون ولكن تظل هي الصورة وحدها أصدق من ينقل ذلك الحدث من تلك الضفة الماضية إلى ضفتنا الزمنية الحالية هذه بل وإلى ضفاف الغد.
ولعلها نقلت التفاصيل الدقيقة لنا عن معلم أو مبنى تاريخي عجز عن توثيقه مهرة المهندسون في تصاميمهم طالما أنهم يعيشون على الضفة الزمنية الأخرى بعيدين عن مرأى ذلك المشهد الواقعي الذي كان له كيان في يوم ما وقد أسدل الزمن بعد ذلك ستارته ليحجب رؤيتها عنهم.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الأكبر وهي مهمة تصدير جميع هيئات تلك المعالم التي أحتواها المشهد إلى عالم المستقبل محمول على وسيلة نقل بسيطة وهي ورقة صغيرة، فأصعب مرحلة من مراحل نقلها هي الإحتفاظ والحفاظ على تلك الرسوم أثناء الأنتقال الزمني، فبعد أن تقوم الظروف وتطورات الأحداث الزمنية بإجراء التغيرات الكاملة على تلك المعالم أثناء مضي الأزمان فإنه يبرز دور هذه الصورة التي ظلت محافظة على ثبات تلك العناصر لتبقى خير شاهد على حدوثها أو كنه وجودها في ماضي تلك الأيام من أجل أن تنقل لنا ما رسمته من واقع وحقائق كانت في تلك الأيام ذات مدلولات مختلفة لايمكن تكذيبها، فتظهر لنا مشاهد لأحداث ومناظر لمعالم تثير التعجب والدهشه ثم تستدعي العقل الباطن بوسيلة لا إرادية لتجبره على المقارنه بشكل تلقائي وفطري وذلك للمكان والزمان بين الأمس واليوم.
إن مجمل السر في اهتمامي وحرصي على نقل ذلك العالم الماضي إلى يومنا هذا عبر عدسات تطبع صورة الأمس تماما كما كانت على أرض الواقع وذلك على أوراق توضح الرؤيا لمن لم يشهدها في تلك الأيام، هذا هو سر وقوفي أيام طفولتي على معالم كان يشدني جمالها أو روعة بنائها أو أعمال يذهلني إنجازها ويسعدني بقائها واستمرار ديمومتها ولكن مايثير الشجون هو عندما يباغتك اختفاء معلم على حين غفلة وهو بكامل قواه بين غروب شمس واشراقتها لتسفر لك عن خلو المكان من ذلك المعلم!
من هنا كنت أغبط الأجانب على تلك الصناديق الصغيرة المعلقة على أعناقهم تماما كالقلادة على جيد الفتاة فهم في نظري يحفظون أشكال وهيئات تلك المعالم على أوراق تدوم بعد أن تمحى جميع آثارها وبكامل بيئتها حتى تصبح في طي النسيان وتظل تلك الصورة شامخة صامدة لتقص حكايات تلك المعالم التي كان لها حيز وجودي وذلك على أجيال اليوم وربما على أجيال الغد وما بعده.
هذا ما دعاني منذ نعومة أظفاري لأن أعلق على جيدي ذلك الصندوق الصغير (اعني الكاميرة) والتي كنت أطلق عليها مسمى (رفيقة الدرب الصغيره) إذ كان حدسي هو دليلي لأن احفظ كيان كل معلم مهم حين (أتنبأ) بزواله ومآله الى الإندثار، فكانت خير وسيلة صادقة للتوثيق هي تلك الصورة.