مدخل
الثقافة هي مجموع العناصر التي توحد مجموعة من الناس مجتمعة. ويتفق معظم علماء الأنثروبولوجيا على أن الثقافة الإنسانية هي سلوك مكتسب يكتسبه الأفراد كأعضاء في مجموعة اجتماعية. فالثقافة هي طريقة كاملة للحياة.
ومع وجود أكثر من سبع مليارات شخص على وجه الأرض، تولدت الألاف من الثقافات المختلفة، ولكل من هذه الثقافات مكوناته الخاصة التي تساهم في تنوع البشر وتشكيل شعوب الأرض.
الاختلافات بين الناس كثيرة ومتعددة والتمايز بينها واضح، وهي تتبلور تبعاً لمؤثرات عديدة منها الجغرافيا والتاريخ والحضارة والاقتصاد. لذلك يجب التعرف على هذه المؤثرات من أجل فهم الثقافات الإنسانية التي تتشكل من معتقدات وقيم ولغة وأخلاق وعادات وممارسات المجتمعات المختلفة.
(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ۚ إن في ذلك لآيات للعالمين – الروم/22).
الجغرافيا
تسمى دراسة تفاعل الإنسان مع الأرض “الجغرافيا الثقافية” وتشمل الاقتصاد والهجرات والدين واللغة. وتتأثر الثقافة من حيث الجغرافيا بأربعة عوامل:
1) الموقع و2) المسطحات المائية و3) المناخ و4) الغطاء النباتي أو الرقعة الزراعية.
1) الموقع
يؤثر الموقع الجغرافي على تطور الأشخاص الذين يقطنون مناطق معينة تبعاً لما يفرضه واقع المكان. ولأن الإنسان سيد المخلوقات فقد منِحت طبيعته البشرية القدرة على التكيف مع الظروف التي يواجهها ، وتطور تبعاً لذلك أنماطًا من السلوك والعادات للتعامل مع ظروف المناطق الذي يعيش فيها مثل الصحاري الجافة، والمناطق شديد البرودة، وسلاسل الجبال العالية والجزر المعزولة بالمياه. فلكل موقع جغرافي تأثيراته المتميزة.
الحواجز الطبيعية مثل سلاسل الجبال والمحيطات والصحاري الكبيرة تحد من سفر البشر وتعزل السكان، وبالتالي تقيد التبادل والتفاهم الثقافي. فاليابان على سبيل المثال، وهي دولة جزرية، بقيت معزولة عن الثقافات الأخرى في العالم لفترة طويلة. ومع مرور الزمن أدت هذه العزلة إلى تطوير ثقافات راسخة، غنية وفريدة من نوعها.
الجبال والهضاب الصخرية تقلل من مساحة الأراضي المتاحة للزراعة، بينما توفر الأراضي العشبية المستوية تربة غنية لزراعة المحاصيل. ومن الطبيعي إن هذا التباين في التضاريس، يؤثر على مدى انتشار الزراعة ونوعها تبعاً للمكان. في المناطق الواسعة من الصحاري، يعتمد السفر على مواقع المياه وتوافر الدواب التي تتحمل الجفاف وقلة المياه مثل الإبل وبالتالي تصبح الإبل جزء من ثقافة أهل الصحراء بينما تكون الفيلة جزء من ثقافة اهل البلاد التي تكثر فيها الأدغال كالهند وأفريقيا.
2) المسطحات المائية
المسطحات المائية الكبيرة قيدت فيما مضى وصول بعض الثقافات الى بعضها البعض الأخرى حتى اصبح السفر اليها امراً سهلا. بعد ذلك، أصبحت المناطق الساحلية محاور للتبادل الثقافي. بعض الأمثلة على البلدان التي استخدمت السفن لنشر ثقافتها تشمل عمان التي أثرت ثقافتها في الساحل الأفريقي وبعض دول أسيا الغربية وكذلك الدول الأوروبية المستعمرة كبريطانيا وإسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين.
كذلك شكلت الأنهار “ممرات سريعة” جيدة للسفر بين التجمعات السكنية الواقعة عليها مما يسر التبادل الثقافي بين هذه المجتمعات المختلفة؛ ومع ذلك، إذا كانت الأنهار سريعة ولا توجد قوارب مناسبة للتنقل، فمن الممكن أن تسبب في عزل المجتمعات عن ثقافة بعضها.
3) المناخ
يحدد المناخ السائد في منطقة معينة نوع الزراعة المحلية الممكنة وأنواع المواشي والدواجن والمشروبات والأطعمة المناسبة، ونوعية الملابس وكيفية ارتدائها، ونوع المساكن التي يبنونها، ومدى سهولة التنقل في الأوقات المختلفة. هذه العوامل التي تشترك فيها وتتأثر بها جماعات معينة تؤثر في بلورة ثقافة هذه الجماعات. فالثقافة هي ناتج للتعلم الجماعي الذي تكتسبه الجماعات البشرية من خصائص ومعارف خلال تفاعلاتها وتعاملها مع البيئة. يشمل ذلك اللغة والفنون والموسيقى والمأكولات والعادات الاجتماعية. لأن البشر يتفاعلون مع الجغرافيا الطبيعية ويتأقلمون معها لتغيير أو تحسين اوضاعهم المادية والبيئية.
4) الغطاء النباتي
يعطي الغطاء النباتي سمة مميزة للثقافة من حيث تأثير الحياة في الغابات والأدغال والأرياف في مقابل ثقافة الصحراء والمدينة. يتكون الريف غالباً من المزارع والحقول وما ينتج عنها من صناعات وخدمات لأهالي الريف.
رغم تتطور وسائل المواصلات، لا تزال هناك بعض المناطق مثل الغابات الاستوائية التي تؤوي ثقافات بدائية نائية بسبب وجود نظم إيكولوجية ذات اغطية نباتية يصعب اختراقها. تقدر جمعية (National Geographic) وجود أكثر من 100 “قبيلة غير معروفة” في أمريكا الجنوبية وبابوا غينيا الجديدة والمحيط الهندي. يحدث الاتصال بالقبائل التي تقطن هذه المناطق عندما يضطر الحطابون وعمال المناجم ومربو الماشية والمستعمرون وشركات النفط الى بناء طرق ليصلوا اليها.
المناطق الريفية أقل كثافة سكانية وأكثر انتشارًا، وتغطي مساحة كبيرة من الأرض. قد تحتوي المنازل على ساحات وجداول وبرك ومياه وفيرة. يعيش الناس في المناطق الريفية عمومًا أسلوب حياة أبطأ ، ويشعرون برابطة قوية مع مجتمعهم ، وشعور قوي بأهمية الناس في نفس المنطقة، لأن ما يعانيه المجتمع له تأثير مباشر وقوي على الفرد الذي غالباً ما يعتمد على قوة مجتمعه الريفي في النواحي الاقتصادية والتكافلية.
توفر الأرياف بيئة طبيعية صحية ونظام غدائي طبيعي جيد، إذا القينا نظرة عامة على الثقافة الريفية سنجدها ثقافة أصغر وأكثر اعتمادًا على الذات. فالريف اكثر تأثراً ثقافياً بما يستورده من المدينة باعتبار المدينة، في كثير من الأحيان، اكثر تعقيداً وإبداعاً من الريف البسيط. في الماضي كانت المجتمعات الريفية تعتمد على وظائف ذاتية ورعاية صحية وتعليم بقدرات محلية.
يتأثر الريف ويتكيف دائمًا مع التغيير الذي يؤثر في ثقافته بشدة. في الماضي، كان الريف مركز الحياة لأنه كان ينتج معظم طعام الناس بالإضافة إلى العديد من السلع الأخرى. كانت المدن والمجتمعات الصغيرة شائعة لأن الناس بقوا داخل مجتمعهم الذي كان يوفر لهم كل ما يحتاجون إليه. تغيرت هذه المعادلة بشكل كبير ابتداء من القرن الماضي. بدأت وسائل المواصلات في ربط المجتمعات الريفية بالمناطق الحضرية مما زاد في التأثير الذي عادة ما يكون سلبياً تجاه بيئة الريف وتشكيلاته الاجتماعية. في المقابل تم إنشاء وظائف جديدة في المناطق الريفية بسبب الاتصالات والنقل المتقدمة. كما بدأت المناطق الريفية في التحول من المجتمعات الزراعية البحتة إلى مجتمعات صناعية جلبت معها تعقيدات الاقتصاد الحديث والتطور العمراني الذي استبدل الرقعة الزراعية المنتجة بإنشاءات سكنية وصناعية لا يستوعبها الريف ولا تناسبه مما أثر على الرقعة الزراعية التي لها تأثير كبير على نوع ثقافة المجتمع.
قالوا: الحضارة، قلت: أسفر وجهها … وبدت محاسنها، فكنَّ عيوبا
ما ضرَّ أهل الريف ألا يحفلوا … بالطب، أو لا يعرفوا «الميكروبا»؟
ضمنت سلامتهم سهولةُ عيشهم … وصفا هواؤهمو، فكان طبيبا
رضعوا رحيق السائمات، وما دروْا … غير النمير وغيره مشروبا
وسرى شعاع الشمس في أبدانهم … فجرى بأوجههم دَمًا مَشْبُوبا؟
شمس القرى كست الوجوه نضارة … أرأيت وجهًا في القرى مخضوبا؟
سر في الحقول، ترَ الرياضة عندهم … فنَّا، وخطًا عندنا مكتوبا
أكبرتُ في القَرَوِيِّ حدة عزمهِ … وحسبتُه في صبره «أيوبا»
ورأيت طيبَ النفس فيه سجيةً … ووداده سهل المنال قريبا
فيه ترى الخلق الصريح، ولا ترى … ضحك النواجذ بالخديعة شيبا
(من قصيدة” الريف” للشاعر المصري: محمود غنيم)
التاريخ
بين الثقافة والتاريخ تفاعل ثنائي الاتجاه ومترابط بإحكام. فالتاريخ يشكل أساس الثقافة لأنه يمثل جذورها التي تمتد الى أفعال الماضين من البشر ويرتبط التالين بها كامتداد للذات، {بلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (سورة الزخرف – 22)}.
يتم نقل تقاليد وعناصر الماضي الثقافية إلى العالم الجديد مما يؤثر على الثقافة من خلال مفاهيم التقاليد والتراث. فالتاريخ هو قصة الماضي وليس الماضي نفسه. ينشأ التاريخ من الثقافة ومن ثم يصبح أداة رئيسية للحفاظ عليها وتطويرها. فالثقافة ارث تاريخي كما هي نتيجة من نتائج الجغرافيا. في عملية تطوير الثقافة هذه، تتم إعادة كتابة تاريخ الثقافة لتعكس التغييرات في الطريقة التي تريد الثقافة أن ترى نفسها بها.
مشى الطاووس يومآ باختيال … فقلد شكل مشيته بنوه
فقال علام تختالون قالوا … بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف مشيك المعوج واعدل … فإنك إن عدلت معدلوه
وينشأ ناشئ الفتيان فينا … على ما كان عوده أبوه
(من قصيدة “مشى الطاووس يوما” للشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري)
الاقتصاد
تتأثر الثقافة بالطرق التي يلبي بها الناس احتياجاتهم الأساسية المستمرة مثل الطعام والماء والمأوى والملابس من خلال الأنشطة الاقتصادية المختلفة سواء عن طريق الإنتاج الضيق للاستهلاك الفردي اللازم وتلبية احتياجاته الضرورية للبقاء على قيد الحياة ، أو على نطاق أوسع للإنتاج الضخم الذي يحرك التجارة ويمنع الركود الاقتصادي.
المال قوة، والمجتمع الذي يعمل ويسعى لأن تكون له قوة اقتصادية تكون له مكانة بين المجتمعات الأخرى. هذا قانون طبيعي في الحياة. الفقر سيئ، سواء اكان على مستوى الأفراد أو مستوى المجتمع. الغني في مجتمع فقير يبقى ضعيف بينما تكون للفقير في المجتمع الغني من اسباب القوة ما تجعل له مكانة في مجتمعه ومجتمع غيره. على أية حال، يؤثر الاقتصاد ووفرة الموارد على مستوى معيشة وسلوك الفرد الذي يمثل في مجموعه المجتمع الذي يأخذ سماته من صفات افراده.
على سبيل المثال، يؤثر الاقتصاد في ثقافة المجتمع من حيث الكرم والبخل والجود واللؤم والسخاء والشح. من الناحية العامة، اذا انتعش الاقتصاد وتوفر المال عاش الناس في بحبوحة من العيش مما ينعكس عادة على اهتمامهم بأنفسهم في المأكل والملبس والتعليم والصحة وإظهار النعمة والميل للترفيه وحب السفر وزيادة المصروف والتمتع ببهرجة الحياة مما يؤثر على مظهرهم الثقافي. لكن هذا لا يعني انه كلما زاد المال زاد الكرم والسلوك الحسن بل ربما حدث العكس.
على المجتمع أن يدرك أن ما هو عليه بسبب ما لديه وهو لن يكون ما يكون إذا فقد ما لديه، إذ أن من السهل أن تؤدي السلوكيات غير المنظمة وغير المنضبطة الى وهن ثقافة المجتمع. يحدد عدد السكان والموارد المتاحة استدامة الكيانات. إن هدر الموارد بشكل مفرط يمكن أن يؤدي الى نفاذها وبالتالي إلى انهيار المقومات الداخلية للمجتمع.
الحضارة
الثقافة تمثل الحضارة التي تتجسد فيها. ومع بزوغ وانتشاء الحضارة يتطور المكان والإنسان إلى مرحلة يمكن أن يرتقي فيها اجتماعيًا وثقافيًا لتحقيق مرحلة أكثر تقدمًا في الوجود الإنساني. من خلال الحضارة يصل المجتمع أو المكان إلى مرحلة متقدمة من التطور الاجتماعي والثقافي، حيث لا تجلب عملية الحضارة الانضباط الفردي فحسب، بل تؤدي أيضًا إلى التحولات في المواقف والقيم. تعتبر هذه المرحلة من التطور الاجتماعي والثقافي البشري والتأسيس الأكثر تقدمًا من أجل تحقيق نهاية خاصة لما نحن عليه اليوم.
على سبيل المثال، عندما نتحدث عن “الحضارة الغربية”، فإننا نتحدث عن المجتمع والثقافة وطريقة الحياة في الغرب، والتي تستند إلى التأثيرات اليونانية الرومانية واليهودية المسيحية. لدى الأوروبيين والأمريكيين العديد من الثقافات من التراث الأوروبي التي تشترك في الأفكار الثقافية المتبادلة، والأسس الميتافيزيقية، والأسس الفلسفية ومبادئ الأجداد. تؤسس هذه الثقافات مجتمعة الحضارة الغربية التي تشَرَّبها الناس في أوروبا والولايات المتحدة.
تعد المناطق السكانية الكبيرة، والعمارة التقليدية، وأنماط الفن المميزة، وأنماط الاتصال، وأنظمة إدارة المناطق، وتقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية واقتصادية، بعض السمات المحددة لكل حضارة. تلبي هذه الميزات الأفكار والعادات والسلوك الاجتماعي لأشخاص أو مجتمع معينين. ظهرت الحضارات من بلاد ما بين النهرين ومصر إلى الحضارات في وادي السند، وسمحت الصين وأمريكا الوسطى للثقافات المتنوعة بالنمو والانتشار والازدهار.
في البداية، كانت المجتمعات متمايزة على أساس تفوقها الثقافي أو دونيتها. كان استخدام “الثقافة البربرية” شائعًا جدًا في ذلك الوقت. ولكن الآن، يتم النظر الى “الحضارة” على أنها جيدة أخلاقيا ومتقدمة ثقافيا. ومع ذلك، فإن دولًا مثل كندا تجد الاستغلال الزوجي والتلاعب، وجرائم الشرف، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، والزواج القسري أو غيره من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، همجيًا ثقافيًا، بغض النظر عما إذا كان هناك قبول ثقافي لهذه الممارسات عبر الثقافات الأخرى التي تبلورت خلال عملية نمو الحضارة.
يمكن للثقافات أن تؤمن حضاراتها من الأسباب المحتملة لنهايتها، والتي تتمثل في التغيير الداخلي والإصرار الخارجي والتفكك البيئي والتصادم مع الثقافات الأخرى التي تترك الحضارة البائدة تنحني لضغوط التراجع الاجتماعي والثقافي القادم من الحضارة الناشئة. عندما تنهار الحضارات وتسقط، تنقرض ثقافاتها معها أيضًا. ومع ذلك، فإن الثقافات القوية لديها القدرة على إنقاذ حضاراتها من الفشل أو الانقراض.
فكلما كانت ثقافة حضارة ما اقوى أصبحت امكانياتها أفضل في المحافظة على الحضارة التي كونتها إذ يمكن أن تتعايش عدة مجموعات ثقافية أو عرقية متميزة داخل المجتمع إذا تمكنت من تقدير قيم التعددية الثقافية والاستيعاب بدلاً من التعصب. فالحضارة هي نظام يتم من خلاله تحقيق حالة متقدمة من المجتمع البشري حيث يصل مستوى الثقافة إلى آفاق جديدة، مما يدل على أنه إذا كانت الحضارة وسيلة، فإن الثقافة هي غاية.
سيتم الحديث عن بعض تصنيف الثقافات العالمية في المقال القادم “الثقافات العالمية الرئيسية (2)”،،،،،،
المصادر:
- https://sciencing.com/four-geographical-factors-influencing-culture-22061.
- htmlhttps://timesofindia.indiatimes.com/readersblog/pracin-jain-academy/culture-is-what-we-are-civilisation-is-what-we-have-29013/)
- https://culturalcomparisonscom272.wordpress.com/urban-rural/rural-culture/#:~:text=Rural%20cultures%20are%20often%20based,lakes%2C%20and%20ponds%20are%20plentiful.