يلاحظ القارئ الكريم بأن المقالات في هذه السلسلة مرتبطة ببعضها بعضًا. وحتى يفهم محتوى المقال اللاحق لابد من الإطلاع على المقالات السابقة. ولهذا أردنا أن نذكر القاريء الكريم أننا في المقال السابق (رقم 6) بدأنا الحديث عن بعض عوامل النمو التالي للصدمة، وبالتحديد ناقشنا ضرورة التكيف الإستراتيجي مع المتغير في حياتنا والذي لم يكن في الحسبان اطلاقًا. يعتبر التكيف الإيجابي اختيارًا دقيقًا للتمييز بينه وبين التكيف الذي يؤدي إلى الإستسلام ومجاراة الظروف. ولكن التكيف الإيجابي يختلف عن ذلك النوع من التكيف في عدة أمور، منها ان التكيف الايجابي ينبع عن قناعة ووعي وارادة ورغبة في مواجهة الصدمة وعدم تجنبها او إنكارها. اضافة إلى ذلك، يمتاز التكيف الإيجابي بأنه عملية نشطة ومستمرة للتخلص من الأثار السلبية للصدمة.
هناك آليتان تساعدان على التكيف الإيجابي مع الصدمة، فما هما هاتان الآليتان؟
للإجابة على هذا السؤال، نعود ونذكر الباحثين تيديشي وكلهون اللذين صاغا مفهوم “النمو التالي للصدمة” ولا زالا منهمكين في دراسته. فقد أشار هذان الباحثان الى آلية يطلق عليها اسم: التذكر المتعمد او المقصود او الإجترار المتداول (deliberative rumination) والثانية تعرف بصنع او صناعة المعنى (meaning making). وكلا الآليتان ضروريتان لوضع خطة (schema) إيجابية جديدة تساعد على النمو بعد الصدمة، هذه الخطة كفيلة لأن تعين المصاب بالصدمة على تغيير نظرته السابقة لما حوله وتجعله قادرًا على التكيف مع الظروف الجديدة للحالة التي تلي الصدمة. وهناك عامل هام لكي تسير وتعمل هاتان الآليتان بسلاسة وبنجاح وهو وجود بيئة اجتماعية داعمة ومساعدة ومشجعة للمصاب. دعنا الآن نعطي إيضاحا وشرحًا لكل منهما.
الإجترار المتداول او المتأني
هذه الآلية ليست سهلة أبداً، لأنها تتطلب العودة لفهم حيثيات وتفاصيل الصدمة. بمعنى آخر، هذه الآلية تجبر الإنسان على سلوك طريق للبحث عن الإجابة على سؤالين مهمين: كيف ولماذا حدثت الصدمة؟ وللإجابة على السؤالين لا بد من توقع حدوث افكار اقتحامية (intrusive) ومعايشة ذكريات مرتبطة بهول الصدمة ومكان حدوثها ومغالبة التفكير فيما حدث، اي التهرب من مواجهة الحقيقة بتفاصيلها المؤلمة. (هذا يعطينا وعيًا للبعد العميق لما ورد عن الإمام علي عليه السلام: إذا هبت أمرًا فقع فيه). بما أن الإنخراط في هذه الآلية صعب و ضروري، فمزاوجة الإصرار المتداول مع آلية صناعة المعنى تمهد الطريق لتجاوز الأزمة والإنتقال الى عملية النمو.
صناعة المعنى
هذه الآلية تتعلق بالتأمل في ما هي الحكمة او الفائدة التي بإمكان المصاب أن يحصل عليها من تجربة الصدمة التي مر بها. هنا، الشخص يحاول جاهدًا تحويل المحنة الى منحة والابتعاد عن الوهم وخداع النفس العابر، والذي لا يلبث إلّا وان يزول بسرع ويعود بعده كابوس الصدمة ليقض مضجع المصاب بالصدمة. هنا يأتي الدور المكمل لهاتين الآليتين للدعم الإجتماعي للشخص. البوح والمكاشفة بما يعانيه الشخص لإنسان آخر يثق به، بشرط أن تتوافر لديه القابلية للإصغاء والتقبل وكتمان السر حتى يكون هذا الشخص الداعم والمساند أهلًا للثقة. كثير من مروا بتجربة البوح والمكاشفة تحدثوا عن فائدة البوح في اكتشاف معنى او معاني إيجابية لما حدث لهم، مما أدى ذلك إلى انعطافة ونقلة من حالة إكتئاب وقلق وعدم توازن نفسي الى جو مملوء بالطمأنينة والهدوء والتماسك النفسي الدافع الى التنعم بالحياة والنظر لها بتفاؤل، وذلك مصداق لعجز بيت الشعر الذي يقول: ” كن جميلًا ترى الوجود جميلا”. التغير الايجابي في النظرة وفي المعنى الذي نعطيه لما حولنا يجعل الحياة جميلة وهانئة، والعكس بالعكس.
هل هناك آليات او عوامل أخرى للنمو التالي للصدمة؟
نعم، هناك عوامل أخرى وفي شرحها سنتعرف على الإجابة لسؤال هام جدا وطرحه بعض القراء الذين يتابعون هذه المقالات، والسؤال هو: لماذا هناك فروق شخصية في التعامل والتكيف مع الضغوط النفسية التالية للصدمة بحيث ينجح البعض ويخقق البعض الآخر — ولو بشكل مؤقت — في الوصول الى مرحلة النمو التالي للصدمة؟
بعض العوامل يرتبط بالقدرة الإدركية، والنجاعة الذاتية (وهي مدى اعتقاد الشخص بقدرته على إتمام المهام وبلوغ الأهداف) ومشاعر الأمل السلوكي (الأمل المصحوب بسلوك / فعل وليس فقط أماني) وفضلا عن دور المرونة النفسية (resilience) في عملية الوصول الى النمو التالي للصدمة.
للحديث تتمة وسنتناول في المقال القادم بعض من هذه العوامل لنضيف لفهمنا لهذا الموضوع الكبير والعميق.
مراجعة: عدنان أحمد الحاجي
* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.