لكل سلعة نصنعها أو نشتريها عمر افتراضي معين. هذا العمر يعتمد على جودة المواد المستخدمة في تصنيعها، وعلى تصميمها، وسهولة إصلاحها، وتوفر قطع الغيار لها.
كل ذلك تحدده مدى رغبة صانع السلعة في أن تدوم سلعته في حوزة المستهلك وكم يريد أن تطول مدة استخدامه لها. فمن ناحية، هناك دافع لدى الصانع أن يقدم سلعته بجودة عالية بحيث يحافظ على اسمه وسمعته بين المنافسين، ومن ناحية أخرى هناك إغراء أن يصنعها بمواد أرخص وجودة أقل، كي يستبدلها المشتري في وقت أسرع، وبذلك يحافظ على نمو المبيعات وتدفق أموال المشترين.
هنا يأتي دور التقادم المخطط (Planned Obsolescence) وهو تصميم المنتج بحيث يكون سريع التهالك أو صعب الإصلاح أو ذا عمر افتراضي قصير. أو تسويقه بحيث يقوم المشتري باستبداله قبل انتهاء عمره المادي الافتراضي.
بدأت المؤامرة في العام ١٩٢٤م عندما انخفضت مبيعات المصابيح الكهربائية على مستوى العالم بسبب التقدم التقني الذي أدى لطول عمر المصابيح، ووصول السوق إلى حالة تشبع. فاجتمع كبار مصنعي المصابيح حول العالم، ومنهم شركة فيليبس وأوسرام وجنرال إليكتريك واتفقوا سرّاً على تقليل عمر المصابيح التي يبيعونها من ٢٥٠٠ ساعة إلى ١٠٠٠ ساعة، بحيث يضطر الناس إلى استبدالها مرات أكثر وبالتالي شراء كميات أكبر. وتبعتهم شركات السيارات في ذات الفترة تقريباً، ولكن بطريقة أخرى، وذلك بعد أن امتلكت أغلب العائلات القادرة في أمريكا سيارات وانخفضت مبيعاتها، فقامت شركة جنرال موتورز بإطلاق نماذج لسياراتها القديمة ولكن بتصاميم وألوان خارجية جديدة. وذلك لتشجيع القادرين منهم على استبدال سياراتهم وشراء أخرى جديدة رغم أنها لا تختلف عنها أبداً من الناحية التقنية.
تمكنت هذه المؤامرة الاقتصادية الجديدة من السيطرة على كثير من الصناعات حول العالم خصوصاً تلك التي لا يحدث فيها تطور تقني سريع، وبذلت الشركات أموالاً طائلة لتسويق وتشجيع السلوك الاستهلاكي لدى الناس كي تزيد حجم مبيعاتها. فأصبحت مصانع الملابس تقدم موديلات جديدة كل سنة. وأصبحت مصانع الغسالات تبيع قطع الغيار بأسعار باهضة. وحاربت مصانع الطابعات إعادة تعبئة الأحبار. وحاربت شركات الهواتف الذكية استبدال البطاريات واحتكرت تعليمات الصيانة. وأغرقت مصانع الألعاب الأسواق بالألعاب البلاستيكية سريعة التلف.
رافق ذلك نمو كبير في السلوك الاستهلاكي لدى الناس، الذين استجابوا لهذه الحملة التسويقية النفسية والاجتماعية الضخمة أو وقفوا عاجزين أمامها. فقد كان التقادم المخطط له، مغرياً في البداية. فمن ناحية، كان لازدياد حجم المبيعات دور أساسي في النمو الاقتصادي وتوفير الوظائف في كثير من الشركات الكبرى والبلدان، ومن ناحية أخرى أصبح بإمكان المستهلكين الحصول على كميات أكبر من السلع التي يريدونها وبأسعار أرخص.
ومثل كل شيء آخر، كان لابد من دفع الثمن، ولكن الذي دفع الثمن هذه المرة هو كوكبنا الوحيد. فقد أدى التقادم المخطط له إلى امتلاء مكبات النفايات بسلع ومنتجات وأجهزة كان بالإمكان إبقاءها صالحة للعمل لسنوات طويلة، كما أدى تنامي السلوك الاستهلاكي لتضخم حجم النفايات البشرية إلى مستويات غير مسبوقة، وتضاعف معدلات استنزاف الموارد الطبيعية، واستهلاك الطاقة غير المتجددة، وارتفاع مستويات التلوث، وتسارع الاحتباس الحراري.
“لم تعد المنتجات تدوم كما كانت في الماضي”
بهذه الجملة افتتح المقال الذي نشره معهد جوته الألماني. وهو واحد من مقالات وتقارير عديدة نشرتها مؤسسات علمية ومنظمات سياسية وبيئية حول العالم، تدعو لمواجهة التقادم المخطط له، بإلزام المصنعين بعمر افتراضي مناسب لكل سلعة، وإجبارهم على توفير قطع الغيار وتعليمات الإصلاح والدعم الفني لسنوات بعد بيع السلعة. كما أن هناك مقترح مقدم إلى الاتحاد الأوروبي لتجريمه.
هذا التصحيح القانوني ضروري على مستوى الحكومات والشركات، وذلك كي يعود البشر إلى الاقتصاد الدائري الذي يوفر لهم ما يحتاجونه دون هدر أو نفايات، أما على المستوى الشخصي فإن سلوكنا الاستهلاكي هو خيار وبإمكاننا تغييره.
موضوع هادف جدير بالقراءة والتأمل – جزاك الله خير.