لن نجد اليوم تنوعا فطريا غنيا بالحيوانات الثديية مكافئا لذاك التنوع الذي نجده في السفانا الإفريقية (African Savanna)، فهذه المساحة الجغرافية المتوزعة في مناطق مختلفة من القارة الإفريقية تبرز اليوم كأكثر مساحات جغرافيا الكرة الأرضية ثراء بالحياة الفطرية. ولذلك فهذه المناطق تبقى أفضل معبر عن السلسلة الغذائية والنظام البيئي (Echo system). فحتى تلك الغابات المطرية المنتشرة على امتداد خط الإستواء، والغنية بالأمطار وموارد المياه والرقعة الخضراء تعجز عن أن تقدم لنا أنموذجا متنوعا للحياة الفطرية كما هو حاصل في مساحات السفانا. والحديث هنا مستمر في تحديده بالثدييات.
ولكن الحال لم يكن كذلك على الدوام في مراحل عمر الأرض، حيث أن لمتغيرات المناخ شروطا تفرض الظروف المهيئة لانتشار الأحياء في كل بيئة وحيز جغرافي. إضافة إلى أن هذه الظروف هي الحاكمة في تفضيل أنواع الحياة الفطرية المناسبة للمعيش في هذه البيئات.
فمن المعروف أن الحياة الفطرية على الأرض ومنذ ظهور بذرة الحياة عليها سادتها عصور وحقب وفترات تنوعت فيها أشكال الحياة المهيمنة عليها، حيث بدأت في صورتها المايكروبية قبل حوالي 4 مليار سنة وأخذت في التعقيد التركيبي للخلايا والأنسجة وأعضاء وظائف الجسد. وبرزت الأحياء المهيمنة تتوالى فتعطي الأرض طابعا فطريا متجددا عبر حقبها، فمن فترات أولية تسودها وحيدات الخلايا، وإلى ظهور آليات لصق الخلايا المتمثلة ببروتين الكولاجين (Collagen) الذي بشر بظهور عديدات الخلايا، فسادت القشريات الأولى كثلاثيات الفصوص (Trilobites) المنقرضة، والتي سادت الأرض منذ عصر الكامبري قبل 540 مليون سنة وحتى كارثة الإنقراض الكبرى في عصر البرمي قبل 250 مليون سنة، أي أن هيمنتها استمرت قرابة 300 مليون سنة. وهي بالمناسبة أطول فترة يسودها نوع حيواني مهيمن على الأرض، ونحن لا نستطيع وضع مقارنة بينها وبين هيمنة وحيدات الخلايا التي بدأت قبل 4 مليار سنة واستمرت قرابة ال 3.5 مليار سنة، لأن وحيدات الخلايا وإن كانت كائنات حية، إلا أنها لا تصنف كحيوانات، بل أشكال بدائية عن الحيوانات والنباتات والطحلبيات الأكثر تطورا وتعقيدا.
وقد لعبت الكوارث الكونية الدور الأهم في قلب الموازين المناخية والبيئية والتي كانت حاسمة في إزاحة كائنات حية عن مراكز هيمنتها فتقصيها وأحيانا تدفعها نحو الإنقراض كما حدث مع ثلاثيات الفصوص عبر كارثة البرمي التي أتاحت لكائنات حية من الفقاريات بالحلول محلها في الهيمنة، وهي الديناصورات التي هي الأخرى واجهت نفس المصير عبر كارثة نيزك خليج المكسيك التي وقعت قرابة ال 66 مليون سنة الماضية. وهذه الكارثة الأخيرة هي التي سمحت لكائنات ظلت تطور من حواسها وأجهزتها العصبية وهي متخفية في الجحور وعلى أفرع الأشجار طوال فترة هيمنة الديناصورات حتى سنحت لها الفرصة أخيرا حين وجدت الساحة خالية من الضواري، وخصوصا أنها كانت الأكثر جهوزية لاستلام مقاليد الهيمنة عبر ما توفرت عليه من خصائص فيسيولوجية وجينية وتحديدا جهازا عصبيا هو الأكثر تطورا بين الأحياء. هذه الكائنات هي الثدييات.
بعد الكارثة استمرت الثدييات في حجز خانات السلسلة الغذائية والنظام البيئي التي ظلت شاغرة بعد تواري الديناصورات، فأخذت تتطور بما يتناسب مع هذه المواقع الشاغرة في السلسلة وفي كل البيئات المتاحة. حيث وجدناها تنتشر في السهول الممتدة والجبال والمسطحات المائية وبما فيها المحيطات. فتبرز منها الحيوانات العاشبة واللاحمة وتلك الجامعة بين الطبيعتين. وظلت تتطور مواكبة متغيرات المناخ المترددة بين فتراتها الباردة والدافئة، وإلى أن حان أوان ولوج فترة الرباعي (Quaternary) الأخيرة التي بدأت بعصر البلايستوسين (Pleistocene) قبل حوالي 2.6 مليون سنة. حيث أن هذه الفترة شهدت بروز أنواع الأحياء وتقريبا بهيئتها التي نراها اليوم. ففيها تطورت القطط والفيلة والخيول والجمال والذئاب وغيرها من الثدييات الأكثر شيوعا. وهذا لا يعني أن هذه الثدييات لم يكن لها أسلاف قبلها، ولكننا نتقصد صورها المشابهة لهيئاتها اليوم.
كما أن ولوج الرباعي أتى معه ظهور أول أنواع سلالات هومو (Homo) البشرية التي سوف يكون لها دور مهم في التأثير على البيئة.
تميزت فترة الرباعي بترددات مناخية تتناوب بين فترات مد جليدي تستمر قرابة المئة ألف سنة، تعقبها فترة مابين جليدية (interglacial period) ثم يعاود الجليد بمد آخر، وهكذا إلى يومنا هذا. ونحن نعيش فترة مابين جليدية بدأت مع حلول عصر الهولوسين (Holocene) وقد نكون قد وصلنا إلى آخرها، ولكنا لا ندري مدى تأثير مناخ البيت الزجاجي الذي أحدثته ماكناتنا الصناعية، فهل تسهم في تمديد فترتنا الدافئة، أم أن هكذا مستوى من غازات البيت الزجاجي الذي نعيشه ليس كافيا لإيقاف مؤثرات الطبيعة!!
من المفيد التأكيد على أن قوى الطبيعة وهي الناشئة عن مؤثرات كونية في المجموعة الشمسية ومن خارجها، لها قدرة على فرض شروط التغيير، ولكنها أيضا تتفاعل بتناغم مع قوى أخرى مهما كانت تأثيراتها قليلة. ولذلك فالقدرة على الحسم هنا لا تبدو سهلة.
رغم هذا فإمكانية انقلاب المناخ واردة وسواء أتت خلال فترات قريبة، أو تأخرت لبضع آلاف قادمة من السنين. وعندها سوف يعود المد الجليدي بقسوة مناخه، وبتأثيراته على سد معابر برية بكتل ثلجية كبيرة، وتمدد في رقعة اليابسة الناشئة عن انخفاض في مستويات مياه المحيطات، حيث أن كميات منها هائلة سوف تحبس ككتل جليدية تخزن في القطبين وخاصة الشمالي الذي تقصده الرياح المحملة بالأمطار.
عندها سوف يعاد تشكل طبيعة التندرا (Tundra) التي تنحصر رقعتها اليوم حول الدائرة القطبية الشمالية وفي مناطق الشمال الآسيوي والأوروبي والأمريكي من شمال جمهورية روسيا وإسكاندنافيا ومناطق الشمال من كندا. ولكنها سوف تتضاعف مساحتها حينئذ لتعود كما كانت في المد الجليدي الأخير لتسع جميع أراضي شمال آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. وتعود ظروف البيئة والمناخ لجعلها أهم مرتع لانتشار الثدييات في مساحات تفوق السفانا الإفريقية بأضعاف مضاعفة.
*باحث في علم الإنسان القديم