الحاج مهدي السويدان – بقلم علي الجشي

وأنت تذكر الحاج مهدي يلامسك إحساس قوي بسرعة طي السنون لأيامها ونسيان الزمان لناسه…

عاش الحاج مهدي في مرحلة انتقالية حضارية وثقافية بامتياز أثرت على نمط المعاش وتقاليد الميراث…

كان الحاج مهدي يحب الشعر ويتذوق الأدب ومغرم بالتاريخ…

تشربت نفس الحاج مهدي حب الوطن والناس وتبنى موروثات وفضائل الماضي وعظمتها….

مصدر الصورة: صفحة الأديب المرحوم مهدي بن محمد السويدان على الفيسبوك

الذكر الطيب
وأنت تذكر الحاج مهدي يلامسك إحساس قوي بسرعة طي السنون لأيامها، ونسيان الزمان لناسه. كنا يافعين صغار في طور التكوين الفكري لقناعاتنا بما نراه ونسمعه ويفرض واقعه علينا، لنقبله أو نرفضه أو نتعايش معه. في بداية المرحلة المتوسطة اصطحبني صديقي ميرزا العلوان إلى مجلس جارهم وإبن ديرتهم المقرب إليه الحاج مهدي، وهو شخصية فاضلة أدبية معروفة منعوتة عند عارفيه بالطيبة والأخلاق السامية، فتسمع ممن يذكرها لك أو تذكرها عنده بلا تردد: “ذلك الرجل الطيب”.

ومنذ ذلك اليوم أصبحت ممن ارتادوا مجلسه، وانتظم في المداومة على حضوره زمنًا ليس بالقصير، جعلني، مثلما جعل رواده الكُثر غيري، أن احفظ له ذكرًا طيبًا وشأنًا رفيعًا ومكانة متميزة، فقد عشنا معه أيام جميلة حافلة بالمعارف، وتعرفنا على شخصية فريدة تلفت الانتباه وتدعو إلى الاهتمام.

الموروث الثقافي
تفهم الحاج مهدي أهمية الموروث الثقافي ووعى أهميته ومتطلباته، وتعلقت شخصيته تعلقًا شديدًا بالمعارف الثقافية والموروثات الشعبية لمنطقة الخط كما كان يحلو له أن يسميها ويستمتع بذكرها على لسانه، مشرقًا وجهه بحبها، مترنمًا بأبيات شعرٍ ينتقيها من كبار شعرائها، كبيت ابن المقرب: والخط حازوها فما ابقوا بها… شبرًا من صفوى إلى الظهران؛ وما قاله عمرو بن أسوى العبدي: وتركن عنتر لا يقاتل بعدها…أهل القطيف قتال خيل تنفع؛ وقول حمل بن المعني العبدي: فقد كان في أهل القطيف فوارس…حماة إذا ما الحرب ألقت بكلكل؛ وقول الشاعر الجشي: وأدلَّتْ التيار تحت شراعها…فلها عليه تحكم وتأمر؛ وقول الشيخ الخطي: قالوا القطيف، فقلت غاية قصدنا…ألق المراسيَ أيها الربانُ.

وقد القى الحاج مهدي مراسيه على شطآنها وأسكن فؤاده هواها. كان كثيرًا ما يردد أبيات شعر يطول ذكرها ويحلو شرحها، حملتها بطون الكتب وتداولتها الألسن، تطري القطيف وأهلها وتسطر امجادها. سمعنا هذه الأبيات والكثير غيرها من الحاج مهدي وحفظناها قبل أن نسمعها من أحدٍ غيره.

أهمية التاريخ
ربما يغفل البعض أهمية التاريخ في فهم الحاضر واستشراف المستقبل، فينتقصون من تأثيره في فهم حال واقعهم ولا ينال منهم الاهتمام المتناسب مع الحاجة الماسة إلى معرفته والاستفادة منه، فدلائل الحكمة تخبرنا إن فهم التاريخ ضرورة لا غنى لأحدٍ عنها، والعاقل من اتعظ بغيره. الكل يحتاج إلى معرفة التاريخ ليعي خلفيات القضايا وبواطن الأمور التي تحملها الأيام، وليتمكن من استشراف المستقبل ومواجهة تحدياته حتى لا تفاجئه خباياه.

وبعيدًا عن “غَدٌ بظهرِ الغيب، واليومُ لي…وكم يَخيبُ الظن في المُقبِلِ”، يحفظ التاريخ الكثير من الشواهد الحية التي لا غنى عنها في تطوير البشر لملكاتهم ومهاراتهم والتعمق في معرفة إنسانيتهم، ليفهموا المستقبل ويتعاملون مع الحياة بطريقة أفضل.

دراسة التاريخ
تفهم الحاج مهدي الأهمية المعرفية لفهم التاريخ، فاهتم بدراسته دراسة واعية، وأولى عناية خاصة بالتراث والتقاليد وما يتعلق بها من سلوك إنساني وقيم مجتمعية، وجعل من ذلك قاعدة يبني عليها تفسيره للحاضر دون أن يتجاوز الواقع أو يغفل رؤية المستقبل آخذًا بعين الاعتبار التغيير المتواصل الذي يفرض نفسه على الحياة. فالثقافات واللغات والتقاليد والمعتقدات وحتى الجينات التي يتناقلها الأجيال جيلٌ بعد جيل هي من الموروثات.

وكان الحاج مهدي متمسكًا روحًا ويقينًا بقيم التاريخ وإنسانيته، وحاول الاستفادة من دروسه وتمريرها لغيره قدر المستطاع بجعل نفسه قاطرة تنقل إرث من سبق إلى من لحق بديناميكية تتفاعل مع متغيرات الزمن، فلم يكن جامدًا ومقيدًا بموروث التقاليد البالية دون وعي وغربلة. فمن لم يعي تاريخه لن يفهم نفسه ولن يدرك اسباب ما يدور حوله، والعبرة لمن اعتبر.

المصدر: صفحة الأديب المرحوم السويدان على الفيسبوك

تجدد الأجيال
تدور الأرض حول نفسها وتطوي السنون أيامها. يُمحى عامٌ ويأتي جديد. تمر الفصول الأربعة، وتجدد الشهور دورتها. يحتفل الناس بعام جديد في رأس كل سنة، فرحون كانوا أم محزونون. ويمضي الزمن في مساره عابرًا الكون الفسيح، سابحًا في بحر مجراته المتسعة، غير ملتفتًا لما يترك وراءه من بشر وحجر وأحداث جسام وتأويلات وويلات ومتناقضات يدونها المؤرخون ليشغلوا بها الباحثين عن أنفسهم المتطلعين إلى حياة كريمة ومدينة فاضلة.

إن ما يصح لزمان بكل ابعاده ليس بالضرورة أن يتوافق مع ما قبله فنتبعه، أو يناسب ما بعده فنحتفظ به. لكل زمان دولته وناسه، ولكل عهد قادته ورجاله. يبلى القديم ويهجر ليأتي جديد يحل مكانه. طرق المعيشة تتغير، والعادات تتبدل وأساليب الحياة تتجدد ولا يمكن لها أن تبقى على حالها، فدوام الحال مستحال، ولكل زمان مفاهيمه وتقنياته وتقاليده التي تتسلل إلى تراثه حتى ولو بدت غريبة في أول عهدها ورفضت في بدايات احتضانها. الأمس غير اليوم، وغدٌ مختلفٌ عنهما. جاء في الحكم المنسوبة للإمام علي عليه السلام قوله: “لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”.

وقد مر الحاج مهدي بتجارب من هذا النوع ولحظها في مجتمعه القديم ومن ذلك موقفه مع والده الذي زوجه في 17 ربيع الأول من عام 1379هـ في سن مبكرة رغم معارضته واحتجاجه على توجه والده الذي هو على خلاف رغبته في التعلم وإكمال الدراسة، وما كان الجواب الذي تلقاه من والده باختصار: “تزوج وبعدها يقدم الله خير”، فما قاله البقباشي نحن عليه ماشي. الكلمة الأولى والأخيرة للأب حتى ولو لم يستوعب أو لم يرغب في استيعاب التيار الجارف ولم يشعر برياح التغيير القادمة على المجتمع الذي توجه بكامله للتعليم والدراسة، ولكن حب التعليم والمعرفة بقيت في دوافن نفس الحاج مهدي، تحملها روحه ويحن لها قلبه ويتطلع إليها أينما وجِدت كأنما فُطر على النهل منها والتزود بمفاهيمها.

نقلة حضارية
وهكذا، عاش الحاج مهدي في مرحلة انتقالية حضارية وثقافية بامتياز أثرت على نمط المعاش وتقاليد الميراث، فمن بيئة زراعية بحرية قديمة رتيبة إلى بيئة صناعية تجارية تقنية تعليمية واسعة متجددة، انتشرت فيها المدارس الحديثة والعلوم والتقنيات والمعارف المكتوبة والمسموعة والمرئية. كما انتشرت فيه تيارات عديدة تنشد التغيير بطرق مختلفة حسب المؤثرات التي طرأت عليها والمدرسة الفكرية التي راقت لها واتبعتها، وفيها الكثير من الغث والسمين. وكان التعصب الذي وصل إلى حد الحماسة الزائدة والغير محمودة سمة من سمات هذه التيارات التي عايشت وصارعت المتغيرات الطارئة والمفاجئة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

وكان الحاج مهدي من أبناء ذلك الجيل الذين اهتموا بوجهات النظر التاريخية والتحصيل العلمي والخبرات العملية المتنوعة، وكل ذلك لم يكن مستغرب عليه، لما يحمله من نزعة عشق وطنية وبواطن حب تراثية تشده للمحافظة على اصالة الماضي وقيمه وتحثه على استيعاب الحداثة والاستفادة منها.

وهذا ما حفزه لأن يجعل من نفسه قاطرة تصل بين الجيل الذي سبقه والجيل الذي تلاه. عجلة الزمن تدور دون توقف. تعمر الأرض وتتطور. يكبر الصغار ويشب الصبيان ويشيخ الشباب ويهرم الكبار وتتبدل الأحياء. ولكي تستقيم الحياة، كان ولا بد أن يكون من طبائع الإنسان الفطرية وسليقته السليمة الرغبة في التجديد لتلبية حاجاته البدنية والروحية. لا مناص للإنسان في حاضره إلا أن يكون جسرًا رابطًا بين ماضيه ومستقبله.

قراءة التراث
قرأ الحاج مهدي التراث على أنه معاصر لنفسه ومعاصر لزمان من يعيش فيه، فرأى إن اللذين يسايرون الزمن ويستشفون متطلباته بعين بصيرة يستعدون له الاستعداد المناسب لينالوا نصيبهم منه فيكونوا محظوظين. واللذين يتقاعسون، يتخلفون عن اللحاق بالركب قابعين في أماكنهم، متقوقعين في ذواتهم، متضجّرين على ما فاتهم، يبكون حظهم مع التعساء.

أدرك الحاج مهدي ببصيرة ثاقبة إن التوقف عند نقطة ثابتة في خط الزمن يدعو إلى التخلف بل هو سبب رئيسي له، وإن التاريخ يستمر في إعادة نفسه وتكرار تجاربه في صور مختلفة على المتحضرين استيعابها بعين بصيرة وفكرٍ واع، وفي نفس الوقت، يبقى الماضي القناة التي تروي زرع الحاضر، والتربة التي تحتضن بذرة المستقبل، والتجربة التي يستفاد منها في جني المحاصيل.

مصدر الصورة: صفحة الأديب المرحوم مهدي بن محمد السويدان على الفيسبوك

الحنين للماضي
يحن البشر لفنون الماضي ورجاله ولعمارة الديار وذكريات الأجداد، ويتلمسون آثارهم وجهودهم، ويفتخرون بقوتهم وعطائهم وفنونهم وابداعاتهم التي طواها الزمن. فالقضيةُ لا تحوم حول حجارة وتراب، بل حنين يلهم الأجيال اللاحقة ويحثهم على كسب المعارف والفنون وإكمال المسيرة. إن في معرفة التاريخ عبرة وفي الشعر أنس ومتعة وفي قراءة الأدب حكمة، وفي كل ذلك مادة ثقافية تزود العقل بالمنطق والفطنة وتجعل للِسان فصاحة ودرابة. ” إنّما المرءُ بأصغريْه قلبِه ولسانِه”، وفي هذا القول اختصار لماهية إنسانية البشر.

كان الحاج مهدي من الأغلبية التي تحن إلى الماضي وجماله، يتذكر حسناته ويتناسى ضنكه وصعوباته. حملت روحه حلمًا بمستقبل مشرق فيه من الخير ما يسع الجميع، ولم يكن في ذلك غرابة على شخصيته التي شغفت بحب بالتاريخ وهواية الشعر والأدب. ولم يكن حنينه إلى الماضي فحسب، بل كان يفخر به ويعشقه؛ استوعبه وسار به نحو المستقبل كشخص له كاريزميته الخاصة واستقلاليته متبنيًا الحداثة المحافظة، قيم الماضي ومنافع التمدن، دون أن يجرفه التيار ليكون مع هؤلاء أو هؤلاء.

النسيان رحمة
يستأنس الإنسان باستعادة صور الزمان الغابرة وذكرياته الجميلة، ويقول: ما اروعها. خضرة وماء وناس طيبين، وينسى إن مع الخضرة كان هناك بعوض وملاريا وذباب وتراخوما وخوف وانعدام أمن، ومياه ملوثة في الترع وقمامة مبعثرة في الطرق وشح في المواد الغذائية وجوع وقلة امكانيات طبية بل انعدامها، فلا منقد لامرأة تعسرت ولادتها ولا مداوي لطفل يصرخ من ألمه ولا إلى علج ناجع يداوي عينًا أصابها رمد ولا مخفف عن شيبة أصابته حمى أو ضاق نفسه.

قد يقول أحد ممن عاصروا بقايا حقبة ذلك الزمان بمرارة: كنا ننام مع البقر ونعالج جروحنا بروثها، ينتفنا البعوض ويغطي اكلنا الذباب، نباعد اليرقات عن الماء في الترعِ لكي نشرب منه. لابد أن حياة الماضي قد قست على هذا الإنسان وكثيرًا غيره، فهو يكره الماضي كره العمى ويغضب حين يسمع أحد يذكره بخير أو يتأسف عليه، لكنه يبقى ضمن الأقلية التي تمقت الماضي،،،

وتبقى الأغلبية هي التي تحن إليه، تحن إليه بشوق ولهفة، تحن إلى البساتين وارفة الظلال ذات النخيل الطوال الزاهية بما تحمل من عذوق ثقيلة بها رطب مختلف الألوان متنوع الحلاوة، تحن إلى الأشجار المثمرة وأغصانها الطرية والأوراق الخضراء والمياه العذبة الجارية والحسان الملاح، تحن إلى قرب الجيران من بعضهم وسماع أصواتهم المؤنسة، تحن إلى مجالسهم ونخوتهم وتعاطفهم، تحن إلى صلة الأرحام وعز العشيرة وتبادل السلام والتحيات بين الزرانيق وفي الطرقات، تحن إلى الجلوس في دكاكين السكة وقهوة الغراب، تحن إلى البراحة والجامع حيث يباع حليب الأبقار الطازج وبطيخ الرامس والبيض الشهي للدجاج المحلي، تحن إلى ليالي رمضان وأصوات أدعية السحر وقراءة القرآن ومشاهدة الأولاد وهم يسرحون ويمرحون بأمان في كنف محبيهم وذويهم.

وكان الحاج مهدي ممن يحنون لكل هذا ويرغب في المحافظة عليه أو اقلها الحفاظ على روح تراثه في نفوس الناس. نسيان مساوئ الماضي رحمة، وتذكر خيراته الكثيرة نعمة.

على المدى الطويل، ينسى الإنسان ضنك العيش ومتاعب الحياة وقسوتها وصعوباتها وظلم العباد وتعدياتهم، فالنسيان جبلة في الإنسان. كل ما مضى ينسى ولو بعد حين، إلا قلة نادرة ممن توسموا العظمة وشملتهم الشهرة، فمن طبائع البشر نسيان من غاب، وذكر من حضر، إلا إن الإنسان في كل الأحوال يبقى امتدادًا لماضيه، بوعي منه كان ذلك أو دون وعي. “وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا…على ما كان عوَّدَه أبوه”.

تجديد التراث
تحتاج المجتمعات إلى مجددين من ذوي الرأي والبصيرة والعقول النيرة ممن يسعون لتفهم تجارب من سبقهم باتزان ووعي يلهمهم القدرة لاستيعاب ما بها من دروس، فتجارب الماضي دروسٌ مستفادة لمسايرة الزمن وبناء نهجًا جديدا يتجاوز المراحل الزمنية الراكدة ويشق طريقًا نحو التقدم مستندًا إلى فكر الرشيد وروح منفتحة تحافظ على القيم التي تحفظ سلامة المجتمع وأمنه، وتبقي التراث حيًا بمفاهيم تناسب بيئته المتجددة وتتوافق مع طبيعة مكوناته الفكرية.

وكان الحاج مهدي من المجددين أصحاب الفكر؛ استوعب التراث وانفتح على الفكر المعاصر، وزود فكره بروح علمية نقدية أساسها الأخلاق والفضيلة واحترام الشخصيات والمرجعيات، وجعل من نفسه جسرًا رابطًا بين عراقة الماضي وقيمه وحداثة الحاضر وتمدنه.

الولع بالتراث
اعتاد الحاج مهدي زيارة السوق القريبة من بيته ليغتنم فرصة الجلوس مع روادها من كتاب وأدباء ومؤرخين والمطلعين على احداث الماضي وسيرة اهله. وكانت دكاكين السوق والمحلات التجارية، إضافة لعملها التجاري، محطات لجلوس رجال أهل البلاد وشخصياتها الذين يقصدون السوق للنزهة والترويح عن انفسهم واللقاء بأفراد المجتمع، وعادة ما يتخذ كل واحد منهم دكانًا أو أكثر يألفه ويعتاد الجلوس فيه أو بقربه وربما جعل لنفسه كرسيه الشخصي الذي يجلس عليه.

اغتنم الحاج مهدي فرصة قرب منزله من السوق ومعرفته بها ليتقصد اللقاء والتعرف بشخصيات أدبية وعلمية، وكان الشاعر المؤرخ المرحوم الأستاذ محمد سعيد موسى المسلم ممن يحضر السوق فيلتقي به في دكان الحاج عقيل وإخوانه. والأستاذ المسلم هو صاحب كتاب ساحل الذهب الأسود الذي قدم للقارئ ومحبي الاطلاع والمعرفة دراسة تاريخية إنسانية شاملة لمنطقة الخليج العربي. وهذا هو أشهر كتاب كنا نسمع عنه في هذا المجال، وقد اخرجه الكاتب بعد جهد جهيد استمر لما يقارب العشر سنوات، وأصبح من أهم المراجع عن تاريخ المنطقة، وقد تعلق الأستاذ مهدي بهذا الكتاب حتى أصبح سفرًا من اسفاره المفضلة، يعيد قرائته مرات ومرات حتى كاد أن يحفظ كل ما فيه.

كتب الأديب الكبير حمد الجاسر عضو المجامع العلمية في القاهرة ودمشق وبغداد في مقدمته عن هذا الكتاب في عام 1962م ما نصه: “لقد حاول السير في هذه المجاهل – قبل الأستاذ محمد سعيد – كثيرون فحملهم الخوف من عدم القدرة على عبورها على الرجوع منها أثناء الطريق. ولكن الاستاذ المسلم كان قد اتخذ للأمر أهميته، فأمضى سنوات تقارب العشر، باحثًا ومنقبًا، حيث مجال البحث والتنقيب خصب – حتى خرج على المعنيين بمعرفة تاريخ بلادنا بسفر ممتع، حاول ما استطاع أن يوضح به الكثير من معالم ماضي هذه البلاد، بعد أن استصفى واستخلص من عشرات المؤلفات أسسًا للبناء، ولو لم يكن من أثر هذا الجهد النافع الذي بذله الاستاذ في إبراز مؤلفه هذا سوى إيضاح كثير من معالم تاريخ هذه البلاد لمن أراد السير على منواله لكفى بذلك فضلا، غير إن الاستاذ المسلم لم يقف جهده عند هذا الحد بل تجاوزه إلى ما هو أهم وأعم نفعا، فقد جمع معلومات قيمة ليس من السهل اليسير جمعها، ولم يقف ذلك الجهد عند حد الجمع، بل تجاوز إلى التنسيق والترتيب ومحاولة إيجاد صورة متكاملة الأجزاء لتاريخ هذه البلاد، فبرز مؤلفًا يضم من المعلومات التاريخية المنسقة المرتبة ما لا يضمه غيره مما أُلف في موضوعه على قلة ما أُلف”.

مصدر الصورة: صفحة الأديب المرحوم مهدي بن محمد السويدان على الفيسبوك

العلاقة بالفارس
ولربما وجد الحاج مهدي ضالته مخزونةً عند الوجيه المرحوم الحاج محمد بن صالح بن حسن الفارس (1318هـ – 1413هـ) الشخصية القطيفية المتميزة الرائدة الفريدة بجميع الأبعاد والمقاييس، فارتبط به بعلاقة اجتماعية منهجية حميمية وثيقة، فالشيخ الفارس مَلَكَ من سامي الصفات وعلو الأخلاق ما فصل فيه وأوضح ادباء البلاد وشعرائها ليكون أنموذجًا تتبع خطاه الأجيال وتفخر به. قال فيه الشاعر عباس مهدي الخزام:

ليس في الخط مثل فارس شهمًا…في المروءات والوفا والفصاحة
قلبه قبل بيته كان مفتوحًا…ويمناه بالندى نضاحة

وقد بدل المرحوم الفارس الجهد الكبير لتكوين متحفًا يجمع الكثير من التراث المتعلق بحضارة وتقاليد مجتمع القطيف والخليج العربي، عبرت عن ذلك ابيات المؤرخ الشاعر العوامي:

يذرع الأرض في غرامك ذرعًا…ويلف الدنا لعينيك لفا
يجمع الرائع النفيس ليُحي…ما انطوى من تراثنا وتعفى

كما اشار الشاعر المجيد المرحوم الكوفي إلى هذا المتحف في ابياته الجميلة:

وصاحب المتحف الغالي الثمين به…من النفائس أنواع وأشكال
محمد الفارس المطري بنعتهم…وإنه مثل ما بل فوق ما قالوا
فلتبكه الخط شجوًا إنها فقدت…شخصية مالها في الخط أمثال

اكتسب متحف الفارس شهرة واسعة وأصبح معلمًا من معالم شخصية القطيف التراثية يحج له الزوار المحلين والمغتربين الأجانب الذين يعملون في شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) والعاملين في السفارات والوفود الرسمية التي تأتي إلى المنطقة. حوى هذا المتحف قطعًا أثرية متنوعة مما لا يخطر على البال من صنوف الأثار والتراث القديم: سيوفًا، وزهريات وآواني زينة، وما يزيد عن ألف مسكوكة نقدية قديمة وقطع نقدية حديثة لبلدان من مختلف قارات الأرض وصور الزعماء والمشاهير في العالم.

كما حوى هذا المتحف حوالي 60 من المخطوطات الأثرية النادرة المتفاوتة الأعمار من مختلف العالم الإسلامي بدءً مما كتب في سنة 502هـ. وشملت هذه المخطوطاتُ المصاحفَ وتفاسيرَ القرآن ونهج البلاغة، وعلومَ الطب والفلاحة والفلك والنحو والأدب، وكلها من المجالات التي شغف بها الأستاذ مهدي وسعى لكسب علومها ومعارفها. ومن المأسوف عليه إن هذا المتحف الثمين تشتت وتبعثر كلمح البصر في غفلة غامضة وأصبح أثرًا بعد عين بعد رحيل صاحبه ومؤسسه إلى ربه.

وبملاحظة السمات الشخصية للحاج مهدي يتضح إن هناك صفات مشتركة بين الرجلين ومنها ما ذكره الكوفي وهو يعدد بعضًا من مناقب الشيخ الفارس:

فلست تلقاه الا باسمًا فرحًا…لا يشتكي الدهر مهما كانت الحال
وما توقف عن شيء به شرف…ولا تمشى إلى ما فيه إخلال
ولا تعنى إلى ما لا يليق به…ولا تأخر عما فيه إجلال

سجايا متشابهة
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه…فكل قرين بالمقارن يقتدي. على المستوى الشخصي اتسم الشيخ الفارس بعطائه السخي والإيثار والحمية ومساعدة المحتاجين، وفي النطاق الاجتماعي والمدني تصدى بما حاز من معارف عميقة واسعة بتاريخ القطيف وظروفها الاقتصادية والاجتماعية، وبتفانيه في المحافظة على التراث والتمسك به جنبًا إلى جنب مع تبني الحداثة والتجديد والانفتاح عليها، وفي هذا ما يتوافق مع ميول الحاج مهدي واهتماماته، فأخال إن علاقة صلبة بنيت بين الرجلين، محورها الشغف بالتاريخ والتعلق بالتراث.

ولد الأستاذ السويدان في سنة 1355هـ بفارق 37 عام تفصله عن الشيخ الفارس المولود في 1318هـ مما اعطى فرصة ثمينة للأستاذ السويدان لمعرفة اوضاع الحقبة الي سبقت جيله وفهم ظروفها من رجل حمل مسئوليات إدارية، منذ أن كان شابًا، واضطلع اضطلاعًا مباشرًا على حيثيات المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي واكبت تطور الأوضاع وتأسيس الدوائر الحكومية بدءاً من عام 1331هـ حيث عمل الفارس فيها واهتم بشئونها من خلال مساعدته لعمه الذي كان وكيل الدولة على املاكها في القطيف والعقير، ومن ثم عمله كأمين لصندوق أملاك الدولة وكاتب عدل، ومن بعد ذلك رئيس لبلدية القطيف، ليصبح بعد تقاعده عمدة للقلعة وكبير عُمد قرى القطيف.

ولفهم العلاقة بين الرجلين أكثر نأخذ بعض من العبارات التي صاغها الحاج مهدي في توصيف الشيخ الفارس في كلمته التأبينية له تحت عنوان وقفة مع المرحوم محمد بن صالح الفارس، فقال: كان رحمه الله تعالى يتمتع بروح مملوءة بالكرم والكرامة والشهامة والنخوة والمروءة، وكان لا يعرف الكبر ولا التكبر ولا التعالي حتى على ادنى الناس بل أنه يحب من كان يزوره ويقدر من يسلم عليه ويكبر من تقرب منه ويحترم حتى الطفل الصغير ويعطف على الفقير ويتواضع لكل الناس على اختلاف طبقاتهم ومدارك وعيهم ويحفظ كرامة كل إنسان فلا يذكر أحد إلا بخير ولا يحمل حتى على من كان يؤذيه وجدا أو ضغينة أو تأثرا وإنما كان دأبه التسامح وهدفه نفع الآخرين فمن كانت هذه ميزاته فإنني في الحقيقة أعجز عن وصف سجاياه الحميدة وخصاله السامية ونفسه المعطاءة التي تخصب كل جذب وتجذب بالأخلاق كل متبرم وتؤنس بالحديث والإقبال كل متضجر وتبهج نفس كل عاشق للإنسانية التي لا تضع لنفسها في كفة الميزان أي معيار إلا بما تحققه من خير للإنسان.

‏وإن هذه السجايا تتمثل في أبنائه البررة وأفراد أسرته العريقة في الشرف، الشامخة في القيم التليدة في العز لأنها ورثت ذلك من الآباء والأجداد المعروفين بتجسيد الأخلاق الفاضلة والإخلاص لكل الناس دونما تصنع أو تخلق أو مداراة لأحد أو مراءاة لمظهر بل إن هذه السلوكيات كانت للمرحوم منهج.

حب الأثار
ركز الحاج مهدي على ميزتين رئيسيتين للشيخ الفارس هما الآثار وإيمانه بعقيدته، وفيما يتعلق بالآثار قال: “كان رحمه الله تعالى مهتما بالآثار التي جعل بها القطيف ظاهرة من مظاهر الوعي الثقافي لدى الرأي العام مما جعل الرواد يزورون القطيف بين الحين والآخر ليشاهدوا ما لديه من الآثار القديمة التي خص لها بيتًا يستقبل فيه الزوار من داخل البلاد وخارجها بدون أي مقابل، بل أنه يستضيفهم ويقوم بتكريمهم ويحسن وفادتهم بعد ما يعرض عليهم تلك النقود الثمينة النادرة والتحف الغالية والآثار القديمة ويشرح لهم بكل ثقافة ووعي وإدراك الهدف من تجميعه لتلك الآثار وعصورها وأدوار أهلها المعاصرين لها من أجل أن يعطي المشاهد نبذة تاريخية عن تلك القطع ومعاصريها وبلادها وأهمية النهضة والتقدم والحضارة فيها.

فجمعه للأثار واقتناؤه للتراث لم يكن وليد الصدفة وإنما كان وليد المحبة للماضي واهله وللتعرف على إنتاجيتهم ومجهودات عطائهم ومستويات حياتهم ولاستيعاب أفكارهم ومعنويات قيمهم بنفسٍ نذرت أيامها وما تملك لجمع شيء من ذلك مع مشقة التنقلات وبذل الاموال والتضحية بالأوقات وهي أغلى الأثمان لأن كل شيء قد يعوض إلا الوقت فإنه لا تعويض له إلا بما ينجزه من بدله في تحقيق ما يبقى له من بعده، الذكر الجميل، مما جعل المرحوم لا يبخل على ما آمن به من حفظ التراث و إظهار البلاد بالمظهر اللائق بسمعتها والمحافظة على مكانتها وجلب الزائرين لها من أنحاء العالم، للتعريف بها قبل ان ينهج من تأثر به وسار على خطاه، حيث أنه كان يرحمه الله تعالى الرائد الأول لجميع الآثار في القطيف بل انه أستاذ لمن جاء من بعده، ومدرسة لأهل هذه الهواية حيث لم يسبقه أحد من الأفراد بتخصيص بيت لذلك حتى الآن”. [انتهت كلمة الحاج مهدي] التي اوردناها لسببين، الأول: التعرف على شيء من الكتابات الأدبية الراقية الرصينة للأستاذ المرحوم الحاج مهدي، والثاني استشفاف ميوله وطباعه. فما ذكره الحاج مهدي تعكس في المرآة ماهيته وكينونته، فذكر من صفات الفارس ما يتبناها لذاته وتعكس شخصيته.

التحصيل المعرفي
كان الحاج مهدي يقدر الشعراء والأدباء والمؤرخين والعلماء ويجلهم ويثني عليهم وكثيرًا ما يذكرهم ويستشهد بأقوالهم واشعارهم وببلاغتهم وفصاحتهم وفطنتهم، قديمهم وحديثهم، بدءً من طرفة بن العبد إلى ابن المقرب والشيخ جعفر الخطي والعلامة الدمستاني. وكان قريبًا من الجيل الذي سبقه من الأدباء يحضر مجالسهم ويقرأ كتبهم. وهذا الجيل قد تشرب الثقافة فأصبحت في دمهم وألهمهم من التأثير ما تشهد به مؤلفاتهم ودواوينهم.

كما ربطت الحاج مهدي علاقة أدبية وثيقة بمجايليه من الكتاب والشعراء الذين تتلمذوا على أيدي من سبقهم. وكان الحاج مهدي شديد الاحترام والتبجيل للمشايخ وطلبة العلم في شتى مشاربه وموارده.

العمل الأدبي
كان الحاج مهدي يحب الشعر ويتذوق الأدب ومغرم بالتاريخ ومتبع لأخلاق القرآن وملتزم بإرشادات الدين ومحبة المجتمع يحترم الكبار ويبدي اهتمام بالشباب وخاصة اليافعين منهم. وكان مولعًا، ليس فقط، بمجالسة من لهم باع في العلوم وميول لتذاكر علوم التاريخ وأخبار والتراث، ولكن ولعه الأساس كان منصبًا في مادة هذه العلوم والأخبار التي يهوى جمعها ودراستها ليحللها بعين المستكشف والمنقب عما وراء حالة المجتمع الإنسانية والاقتصادية التي هو جزء منها.

مصدر الصورة: صفحة الأديب المرحوم مهدي بن محمد السويدان على الفيسبوك

الكتابة النثرية
كان أول موضوع كتبه، ونشر باسمه من خلال صفحات “مجلة الإذاعة والتلفزيون السعودية” عن القطيف، ونال عليه في حينها مكافأة قدرها 150 ريالًا، وهو مبلغ له قيمته في ذلك الوقت. وكان المحفز لبزوغ فكرة الكتابة عن هذا الموضوع بالذات “راديو لندن” الذي كان يبث برنامجًا يتحدث عن الأماكن المهمة في الوطن العربي في ليلة شتوية قارصة تجمد فيها الماء وكان المذياع هو وسيلة الحاج مهدي للتسلية عن ألم وفاة والده في ذلك العام.

وكانت هذه الإذاعة محل اهتمام كثير من العرب بمختلف مستوياتهم الثقافية ومشاربهم الفكرية لاستقاء المعلومة المفيدة إذ كان الانطباع السائد في مجمله عن هذه الإذاعة إيجابيًا وإن لم يخلو من بعض التحفظات والنقد والتشكيك في أهدافها من قبل البعض. رافقت إذاعة بي بي سي العربية أجيال عديدة منذ عام 1938، وارتبطت في أذهان مستمعيها بذكريات خاصة، وكانت لهم المصدر الرئيسي للمعلومة والخبر والتحليل المعمق.

وعن الثقافة الغزيرة التي يجدها القارئ في كتاباته وينم عنها أسلوبه المتميز، يرى الأستاذ مهدي إنها تتأتى لمن حُبي بموهبة معززة برغبة قبل أن تُتاح المعلومة، لأن المرء إذا وجدت عنده هواية تمكن من نيل ما هو متوجه إليه، وعلى الكاتب قبول ما يتعرض له من نقد لأن البدايات دائمًا صعبة وتحتاج إلى استعداد وصبر على التفهم والاستيعاب لتعزيز الملكة؛ لا تحب المجد تمرًا أنت اكله…لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا.

وإضافة إلى ثقافته الذاتية التي شملت التبحر في التاريخ والتراث واتقان علوم اللغة العربية من نحو وصرف وقواعد إعراب وبلاغة في الكتابة والخطابة، حصل الحاج مهدي على نصيب وافر من التعليم التقليدي وحصة مناسبة من التعليم الرسمي، ولعله استفاد من اهتمام والديه بتربيته رغم ترتيب اولوياتهم بما يناسب زمانهم. كما استفاد من إقامة أول مدرسة في القطيف بعمارة النهاش المجاورة لمنزله.

كتابة الشعر
للحاج مهدي مع الشعر قصة بداية ألهمته نظم أول قصائده التي نشرت في مجلة المنهل بعنوان “لقاء في وادي”، وكان مطلعها:

اطلت فغاب البدر في أفق السما…ومنها ضياء الشمس أبدى التكتما

إلا إن الحاج مهدي صد عن الشعر، وقال إنه ليس بشاعر ولم يدرس الأوزان الشعرية ولا العروض وإن ما نظم من شعر كان لخواطر تزوره يكتبها ويعرضها على بعض الأساتذة مثل الكوفي ومنصور بن ناس، وربما يكون هذا تواضع منه وإنصاف كل شيء من نفسه، وربما يكون محقًا فيما يراه لنفسه إلا إن له العديد من القصائد والكثير من الأبيات المتناثرة، وما زلت اتذكر أول بيت من قصيدة قصيرة ارسلها لي برسالة بريدية في فترة منعتني بعض المشاغل عن مجلسه يقول فيه: علي الجشي أرجو الخير مانعك…ولا أرى الشر إن شاء فصدكم

التحصيل العلمي
بدأ الحاج مهدي حياته التعليمية بالدراسة عند المعالمية (الكتاتيب) الذين يعلمون الصغار والناشئة قراءة القرآن الكريم وتسميتهم المحلية معلمين أو “معالمية” باللهجة الدارجة كما إن التسمية المحلية للتلاميذ “وليدات” وهو اسم جميل أُحسِن اختياره لإيحائه بمكانة التلميذ عند معلمه كولد من أولاده. وتطلق كلمة وليدات على الأولاد والفتيات الصغار دون تمييز، إذ كان التعليم عند “المعالمية” مختلط في السنين المبكرة وبالتحديد عندما تكون المعلمة امرأة.

بدأ الحاج مهدي تعليمه عند معلمة وعمره ما يقارب الأربع سنوات ونصف، ولكنه لم يستسغ ذلك وطلب من والده أن ينقله إلى معلم وكان له ما أراد عند الملا صادق الذي لم يتحمل صرامة أسلوبه القاسي على الصغار (حسب قوله) إذ كان يطالبهم بالتصرف والاستقامة كالكبار ولا يراعي سن المرح واللعب عند الطفل، فانتقل مرة أخرى للدراسة عند معلم اسمه “السنابسي” وكان شيخًا طاعنًا في السن يبلغ من العمر ثمانين عاما، إلا أنه كان خبيرًا في التربية يتلمس حاجات الوليدات ويساير أعمارهم حتى إنه يلعب معهم في وقت الفسحة الألعاب الشعبية كالصبة والخطة ويقدم لهم الفطور. وعند المعلم “السنابسي”، ختم الحاج مهدي القرآن خلال عشرة أشهر وهذا يدل على نباهة فائقة.

بعد ختم القرآن، انتقل الحاج مهدي للدراسة عند الملا علي بن محمد بن أحمد الرمضان الكويكبي القطيفي (1314هـ-1397هـ)، وهو علم شامخ من اعلام البلاد المشار إليهم بالبنان في الفصاحة والبيان وفنون الشعر وأصناف الآداب، وعلى جانب عظيم من التقى والورع والصلاح، ذا نباهة وذكاء وفطنة، نشأ محباً للعلم وذويه، وافتتح محلاًّ أشبه شيء بمدرسة ابتدائية كانت لها أهميتها في البلاد القطيفية، استمرّت بنتاجها النافع أكثر من أربعين سنة؛ لذا عرف بالمعلم.

ومن نتاج تلك المدرسة ديوانه “وحي الشعور” في جزأين احتويا مراثي ومدائح لأهل البيت عليهم ‏السلام. ذكر الحاج مهدي أن له “ملحمة القطيف” وربما قصد بذلك قصيدته العصماء في ماضي القطيف وحاضرها التي تحتوي على أكثر من مئة من أعلام القطيف من مختلف الطبقات. كما كان الملا الرمضان خطّاطًا ماهرا، امتاز بجودة خطه على جميع كتّاب الخط في القطيف.

بعد ذلك التحق الأستاذ مهدي بالدراسة النظامية الحكومية الرسمية في المدرسة الابتدائية (زين العابدين حاليًا) وكان مديرها الأستاذ سعد الرحيل ومن مدرسيها أبو شريعة وأحمد أبو ريادة. وفي ذلك الوقت، كانت الشهادة الابتدائية تؤهل صاحبها للحصول على وظيفة ومواصلة التعليم في المراحل الدراسية المتقدمة وفي المعاهد وبعض الكليات.

وكانت هذه الشهادة تعد وكأنها شهادة جامعية مقارنة بهذا الوقت لأن الطالب إضافة إلى تحصيله العلمي المدرسي يكون قد أهل مسبقًا بإكمال تعلم قراءة القرآن الكريم والقراءة العامة والكتابة وأُسس النحو والصرف والحساب على يد كتاتيب مؤهلين حسب الطرق التقليدية المتبعة في التعليم كما هو حال الحاج مهدي في مدرسة الملا الرمضان. ومن دلائل أهمية الشهادة الابتدائية في ذلك الوقت إيكال جنود لمراقبة الطلاب اثناء أدائهم لاختباراتها النهائية.

مصدر الصورة: صفحة الأديب المرحوم مهدي بن محمد السويدان على الفيسبوك

تقدير المعلمين
حمل الحاج مهدي في روحه تقديرًا خاصًا للمعلمين والمدرسين المتميزين في عملهم بجميع التخصصات وبمختلف المستويات نلمسه بوضوح في كتاباته عنهم في المناسبات الاجتماعية العامة التي كان يحرص على المشاركة فيها بكلمات يعبر فيها عن آرائه وفكره بما يخص المناسبة وصاحبها. ففي ورقة تأبينه للمرحوم المعلم الفاضل الأستاذ منصور بن الشيخ علي المرهون يصف المعلم بأنه “رسول” ولا ريب كونه يحمل رسالة إنسانية إلى الأجيال الساعية في طلب العلم، وباعتباره مربي للناشئة وإنه من يصنع الإنسان.

ويعتبر المعلم الأب الروحي المعنوي لطلبته لأنه يرشدهم ويوجههم وينقذهم من الجهالة وظلمة الخرافات فيتعلمون تعليمًا سليمًا يرتفع فيه صرح المجتمع عاليًا بما سيقدمونه من اعمال جليلة في سماء التفوق فالقوة لا تأتي الا بالعلم الذي يأتي من المعلم الصالح المخلص الواعي المتقن لعمله والواعي لمهمته الجسيمة في التربية لتوجيه الناشئة إلى الأحسن ليصلح شأنهم في الدنيا والآخرة، وإن المعلم الحقيقي ليس هو الذي يبدل جهده ووقته مقابل راتبه فقط بل هو من يؤمن بحمل رسالة سامية من واقع مسئولية شرعية اجتماعية.

قطاع البريد
أهلت الشهادة التي نالها الحاج مهدي في ذلك الوقت للعمل موظفا في إدارة البريد فأعطاه اهتمامه وقدر مسئولياته، ووجد فيه فرصة لخدمة المجتمع وتكوين علاقات اجتماعية وتقاربية مع فئات عريضة من الأفراد والشخصيات والمسئولين الذين يتعاملون مع البريد بصورة مستمرة.

وقبل التحاقه بالخدمة البريدية في عام 1381هـ كموظف رسمي حكومي، عمل الحاج مهدي في السوق وهو في سن مبكرة بعد زواجه ككاتب سجل في (الباج) براتب شهري بدأ بمئة ريال إلى أن وصل إلى 250 ريال، وكان أكثر تعامله مع البدو الذين يجلبون الأغنام والجمال والدهن للبيع وكذلك المزارعين الذين يجلبون الأبقار والماعز.

أحب الحاج مهدي عمله بالبريد وأخلص له، وعزى إليه الفضل في تطور موهبته الكتابية حيث ذكر إنه لم يكن يشعر بهذه الرغبة قبل التحاقه بالبريد، ولكن بفضل البريد ووجود المجلات العربية التي تصل عن طريقه، ومن ثم استعارتها من أصحابها لقراءتها تفتحت لديه آفاق الرغبة في الكتابة.

أسس البريد السعودي في عام 1344هـ ليحل محل البريد الشخصي القديم. ثم تم إنشاء مديرية أعمال البريد في عام 1354هجرية التي أصبحت مصلحة البريد والبرق والهاتف في عام 1373هـ ليكون بدء عمل الحاج مهدي فيها بعد ثمان سنوات من هذا التاريخ مما جعله من أعمدة موظفيها القدماء المخضرمين.

في ذلك الوقت كان البريد الرسمي هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لتسهيل الأعمال التجارية وتمكين التواصل الاجتماعي والأسري للمغتربين والمسافرين وربطهم بذويهم وأصحابهم المتباعدين في انحاء العالم والمتوزعين في اصقاع الأرض. أما الأمور المستعجلة فكانت تبعث بالبرقيات وهي تقنية ابتكرها صموئيل مورس في عام 1835م واستخدمت لإرسال البرقيات والنصوص اعتمادًا على ترميز الحروف. وكان للبريد ولا يزال دورا محوريا أساسيا في دعم الأعمال التجارية والحياة الاجتماعية بربط الناس حول العالم بعضهم ببعض، وخاصة قبل وقت استخدام الهاتف الذي كان يومًا من الأيام صعب المنال، محدود الاستعمال. وحسب الموقع الرسمي للإتحاد البريدي العالمي، تعود بداية الخدمة البريدية إلى مصر القديمة حوالي 2500 قبل الميلاد.

مصدر الصورة: صفحة الأديب المرحوم مهدي بن محمد السويدان على الفيسبوك

كان الحاج مهدي بقدرته الأدبية والشعرية شخصية مؤثرة في فعاليات ومناسبات قطاع البريد، ونظم قصيدتين في أهمية البريد وما يقدمه من خدمات انسانية، وألقى أحدى هاتين القصيدتين في الخفجي أثناء اجتماع عقد سنة 1405هـ نتيجة للحفاوة التي قوبل بها هناك من قبل أحمد عطية، أبو نايف، أما القصيدة الأخرى فكانت بمناسبة اليوم العالمي للبريد التي يحتفى به في التاسع من أكتوبر من كل عام، وهو يوم الذكرى السنوية لتأسيس الاتحاد البريدي العالمي في العاصمة السويسرية برن في عام 1874م، ونشر من هذه القصيدة عشرة ابيات في جريدة اليوم.

وكانت هواية جمع الطوابع البريدية وتبادلها هواية رائجة عند طلاب المدارس والكثير من الشباب والمهتمين بتراث وثقافات البلدان الأخرى في العالم إذ أن لكل طابع من طوابع البريد لبلد معين من بلدان العالم رمزية ومعنى يوضح تاريخ وتراث وإنجازات وشخصيات وقوة ومكانة ذلك البلد، فكانت الطوابع البريدية مهمة جدًا في تعريف الناس بهذه البلدان وما يتعلق بها، وكان جامعو الطوابع يتنافسون في اقتناء الطوابع النادرة والقديمة ويتسابقون في جمع المستحدث منها.

كما كانت هواية التعارف بالمراسلة هواية محببة ورائجة بقوة هي الأخرى إذ يتم التعارف عن طريق المجلات فتتم المراسلة مع مواطني الدول العربية الأخرى عن طريق البريد. وكانت لساعي البريد مكانة وأهمية كونه الذي يحمل الأخبار والبشارات، وفيه انشدوا: يا ساعي البريد …هل جئت بالجديد؟ حوالة مهمة …او خبر سعيد؟ ويكون جوابه:

مهمتي عسيرة زيارتي مثيرة …رسائلي اخبارها صغيرة كبيرة
اجول كل يوم مثقل الجراب… وارجع التحية بألطف الجواب
وأن اتيت يوما بسيء الاخبار… فذلك لأسفي مشيئة الاخبار
جهودك نبيلة يا ساعي البريد… فمرحبا بسعيك وجهدك المفيد

فهل قربت طبيعة عمل الحاج مهدي في البريد الناس إليه؟ أم إن أخلاقه الكريمة قربته منهم؟ أم تعاضد السببان ليسهما في قربه من الناس وقرب الناس إليه؟

استمر الحاج مهدي في العمل بوزارة البرق والبريد والهاتف إلى أن أصبح مديرًا لقطاع القطيف حتى تقاعده في عام 1415هـ. وفي مدة خدمته المتواصلة التي بلغت 34 عاماً تمكن من تكوين علاقات شخصية كبرت وتوسعت، فوظف ما استطاع منها لزيادة قدراته المعرفية وللتوسط في بعض القضايا التي تسهل أمور الناس وقضاء حوائجهم.

في ذلك الوقت لم يكن للكوادر التعليمية والطبية والمسئولين في الدوائر الحكومية وغيرهم غنًا عن البريد فكانت إدارة البريد مكانًا للتعرف على الناس. وكان الحاج مهدي بالإضافة إلى عمله الرسمي الذي أتقنه، يساعد الناس في إعداد وكتابة رسائلهم وبرقياتهم، فكانوا يستفيدون من خلفيته الأدبية وفكره وقوة عبارته في جعل مراسيلهم تبدو في أجمل وألطف صورة.

الحياة الاجتماعية
تشربت نفس الحاج مهدي حب الوطن والناس وتبنى موروثات وفضائل الماضي وعظمتها وعدم التوقف عند خرافاتها وتجاهل سفاسفها وترهاتها والتندر بغرائبها كأم حمار ودعيدع والجريدة الطائرة، فلكل قصة حكاية تتبعها رواية، تزيد منها وتنقص، لتأخذها إلى عالم الخيال وأنطولوجيا الميتافيزيقيا لتوصيف ما وراء المادة والحس العقلي لما وراء البحار والقفار وما اختفى في الظلام واستبطن الأرض وطار في الهواء، وهي مادة خصبة للخوض في أسرارها ونقاش موضوعيتها بجدال لا ينتهي لإبطال أو اثبات صحتها. وكذا هو حال المجالس تستدعي من يحضرها للحديث والكلام فيما يطرأ عل بال الأنام ليكسر الصمت ويوقظ النيام.

اتخذ الحاج مهدي لنفسه مجلسا مفتوحًا لرواده طيلة ليالي أيام السنة صيفا وشتاء قبل انتشار المكيفات والتلفزيون، وكان الحاج مهدي قد أعاد بناء منزله وبناه بالطراز العربي مستخدمًا الحجارة البحرية والإسمنت والأبواب والنوافذ الخشبية وجعل مجلسه جهة الشمال حتى تكون تهويته جيدة وجعل فيه نوافذ على طول حدوده المطلة على الزرنوق المحاذي لبيته من الجهة الشمالية. كان مجلس الحاج مهدي مكانا مفتوحًا للجميع من شباب وبراعم ويافعين وكبار عاملين.

كان رحمه الله يثابر على دعوة الناس إلى مجلسه باستمرار، وكان أكثر من يحضر المجلس طلبة في مراحل دراسية مختلفة بدءًا من الإعدادية إلى الجامعية كما كان يحضر المجلس الأكبر سنًا من أدباء وكتاب وممن يعملون في السوق ومنهم موظفون وأصحاب أعمال خاصة فتتعدد الآراء وتختلط الأفكار وتتراكم المعارف في شتى مقتضيات الحياة ويكون للحديث متعة وللمجالسة أنسة، والكل في المجلس محترم ومقدر.

كان يحفُ بزواره ويكرمهم بطيب أخلاقه ويزودهم بما عنده من معلومات ويشاركهم ما لديه من أفكار، ثم يستشف من ردودهم طريقة تفكيرهم وصلابة آرائهم وتوجه اهتماماتهم ويتناقش معهم بدلًا من مسائلتهم والتحقيق معهم وفرض رأيه عليهم. ‏فيعمل قاصدا على التأثير فيهم وتوجيههم بإقناع. فهو يستمع دون مقاطعة وينتقد بأدبٍ دون مراوغة ويتكلم بصوت عميق منخفض الصوت قوي النغمة يهمس في الآذان همسا فتصغي إلى حديثه. الصوت المرتفع يفقد الكلام قوته وتأثيره، ورقة الصوت العميق الهادئ يزيد الكلام رونقًا وجمالا.

وفي شهر رمضان يخصص الحاج مهدي وقتًا لقراءة القرآن بختم جزئين منه كل ليلة لتتم بذلك ختمتين في الشهر يقرأها قارئ متخصص، يحسن التجويد وله صوت جميل مع إعطاء الحضور الفرصة للمشاركة في القراءة لتمرينهم وتعويدهم عليها وزيادة إتقانهم لها، وهذا هو حال جميع المجالس القرآنية التي يكثر إقامتها في شهر رمضان من كل عام.

وأثناء القراءة تتوجه الآذان إلى الاستماع فلا يكون هناك كلام. وبعد القراءة تأتي أسئلة بقصد الاستفسار والمعرفة وتفهم بعض الآيات في الحديث حولها ويبدا المجلس بقراءة بعض الأدعية ويستمر المجلس في هذا الشهر إلى وقت متأخر. وفي العيدين من كل عام يقيم الحاج مهدي غداء العيد ويدعو إليه اقاربه وجيرانه وأصحابه.

المصدر: صفحة الأديب المرحوم السويدان على الفيسبوك

كان رحمه الله كريم النفس، حسن السجايا، لين الطباع، شديد المراس، بشوش الوجه، ودود المعشر، دائم الابتسامة دقيق النظر بعينيه المتنبهتين، حلو اللسان واضح الكلام بليغ المنطق، يقبل على مجالسه ويعطيه انتباهه، ويصغي لمحدثه ويستوعب مراميه، فيجعل من معه يشعر بقربه له، وهو بطبعه أقرب للوصل منه إلى القطيعة والجفاء.

مر الحاج مهدي في هذه الحياة مرور الكرماء الفضلاء النبلاء محاولًا قدر المستطاع أن تعم الفضيلة مجتمعه ويستمر في المحافظة على قيمه فنال محبة الناس الذين حفظوا له الذكر الطيب والود المستمر في حياته وبعد رحيله بهدوء إلى خالقه وبارئه. رحمَ الله تعالى أبا علي الأستاذ الحاج مهدي بن محمد السويدان بواسع رحمته وجزاه الله على اعماله وأفعاله التي قدمها لبلاده خير الجزاء.

المهندس علي الجشي

2 تعليقات

  1. أحمد الخميس

    شكراً لهذه الإضاءة الوافية والإفاضة الثرية عن رمز من رموز الأدب في القطيف الغاليه ووجه من الوجوه الاجتماعية البارزة فيها وهو الأستاذ الشاعر مهدي السويدان أبي علي رحمه الله وطيَّب ثراه.

  2. شكرآ جزيلا ابو حسن وجزاك الله خير لدكرك هدا الشخص الاجتماعي المؤمن الدي كان مجلسه مفتوحا للجميع والإضافة بأنه شاعر واديب فقد كان خادما للناس ومصلح بين الخصومات ويقصده البعض لكتابة الخطابات للجهات الخدمية وكان في كل أسبوع يرتب لنا زيارة إلى أحد المشايخ وكدلك الخطباء وهدا ما جعل مجتمعه يكن له المحبة والاحترام أكرر لك الشكر الجزيل على خطوتك النيرة.

اترك رداً على أحمد الخميس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *